عبد الجبار العتابي من بغداد:ما ان تمد اولى خطواتك داخل صالة دائرة السينما والمسرح في بغداد صباح يوم الاثنين الماضي ، حتى يداهمك صوت المطربة العراقية الكبيرة عفيفة اسكندر وهو يملأ المكان ، ولا تستغرب ذلك ابدا لأن مهرجان اسبوع نهارات المدى الذي يقام على المسرح الوطني اعتاد خلال ايامه بث أغنيات لكبار المطربين العراقيين ، وهو ما أشاع نوعا من السرور في نفوس الحاضرين ، وكان علي ان انصت الى الصوت الطافح بالبشر ، ولكن ما يثير الانتباه هو ان الاغنيات تكررت اكثر من مرة ولم يشارك اي صوت اخر صوت عفيفة اسكندر الصادح في تلك الساعات الصباحية ، وسرعان ما بطل العجب حين طلت الفنانة عفيفة اسكندر من الباب الرئيس وهي على كرسي متحرك تدفعه امرأة ترافقها ، تعلقت الانظار بها ، مثلما تعلقت هي بالانظار ، واندفعت الدهشة تسبق الناظرين اليها ، كان صوتها الاتي من مكبر للصوت لا يتوافق مع اطلالتها ، فالفرق يمتد الى سنوات بعيدة ولكن بأمكانك ان ترى لمحات من السحر ما زالت راكزة في وجهها وتشع ببريق يترك بصمة في الذاكرة ، وانحدرت عفيفة بكرسيها المتحرك نحو غرفة مدير المسرح الصغيرة .
وتركتها لتستريح قليلا وتستقر في مكانها الذي ذهبت اليه ، حتى تسللت اليها ، كانت تجلس على الكرسي ذاته وبجانبها المرأة التي عرفت منها انها المسؤولة عن الرعاية والعناية بها واسمها (نهرين / ام عيسى) ، حيث ان عفيفة تسكن لوحدها في شقة بالطابق السادس في منطقة الكرادة ،حييت المطربة الكبيرة ، صافحتها، ووقفت قبالتها ألتقط لها بعض الصور ، ومن ثم سألتها عن سبب وجودها الجميل اليوم في المسرح فقالت : انهم يريدون ان يكرموني من قبل مؤسسة المدى ، وقد اتيت لهذا السبب ، ثم اضافت بعد لحظات من الصمت ( رجلاي توجعانني .. ) وحاولت ان تجهش بالبكاء ومن ثم تأوهت وهي تقول لي ( شوفي حالي .. شلون صرت) ، وحاولت ام عيسى تهدئتها ، وبالفعل هدأت ، وقالت عنها : (انها تشكو من كسر في الحوض ، حدث ذلك قبل ثمانية اشهر ، ولم تتم معالجتها معالجة تامة ).
وحين سألت عفيفة اسكندر عن شعورها في هذه اللحظة ، فقالت بسرعة وهي تتوجع ( شعوري .. تلف ) لكن ام عيسى اعترضت عليها قائلة لها ان هذا يعني ان الناس يحبونك وعليك ان تكون فرحانة ) فقالت عفيفة : نعم انا فرحانة بالناس والتكريم وانهم لا زالوا يتذكرونني ، ولكني مريضة ، واطلب العلاج في اميركا لانها الوحيدة التي فيها العملية ناجحة ، كما انني ما زلت اسكن في الطابق السادس من عمارة (حبو) واذا تعطلت الكهرباء لايعمل المصعد ) ، وحاولت ان اخفف من حزنها ، وقلت لها : الم تسمعي اغانيك وهي تملأ صالة المسرح الوطني ؟
قالت : اسمعها واشكرهم عليها ،قلت لها : هل هنالك اغنية تحبينها اكثر من اغانيك الاخرى ؟ ، وبسرعة اجابت بنعم ومن ثم راحت ترفع صوتها بالاغنية : (هزني الحنين لهلي / والشوق بي ّ زاد / هيا بنا يا ربع / نمشي درب بغداد) ، وانتشت عفيفة مع ترديدها للكلمات ثم قالت :( انا احب بغداد ، امنيتي ان ابقى في بغداد ولا اغادرها ، حتى اموت فيها وادفن ، اتمنى ان تصير صحتي (زينة) واتعالج وابقى فيها ، انا احب بغداد كثيرا ، وما سافرت ولاهاجرت من زمان (بس) لسبب انني احب بغداد ) ، ثم سألتها عن المطرب الذي تحب ان تسمع اغانيه فقالت : ناظم الغزالي .
وحاولت ان اشحذ ذاكرتها واتعمد الضغط عليها من اجل جعلها تسترسل في الحديث ، فذكرت لها العديد من الاسماء التي ارتبطت بها في مسيرتها الفنية ولكنها لم تتذكرها بقدر ما كانت تحاول حين تقول في لحظة تأمل : (نعم .. نعم ) واعتقد انها لم تتذكره ، ولكن حين قلت لها : يا ست عفيفة .. هل تذكرين انك اضعت فرصة التمثيل مع المطرب محمد عبد الوهاب في فيلم (يوم سعيد) ، وهنا قالت : نعم .. ارادني المخرج محمد كريم ان امثل معه ولكن وصلتني برقية من بغداد تقول ان امك مريضة جدا ، ولهذا رجعت الى بغداد وتركت الفيلم وندمت لانني لم اشترك في الفيلم ،وراحت تدندن بمقطع من اغنية (يا ورد مين يشتريك) ، ومع ان مرافقتها ام عيسى قالت لي ان ذاكرتها تعبت فهي تحمل (84) عاما وبالتأكيد التذكر لديها ضعف ، لكنني طلبت منها ان تجيبني بصراحة عن سؤال طالما تحدث عنه الاخرون كثيرا ، وهو : هل فعلا كانت لديك علاقة حب مع الشاعر حسين مردان ؟ ، وبصراحة لم يظهر على وجهها اي اثر للسؤال واعتقد انها لم تتذكره ، ولكنني الححت عليها ان تتذكر وتجيب ، وبعد ان شرحت لها قالت : ( لا.. لا .. لا (ماكو) هيج ، هو شاعر (خطية) كان يحضر في مجالسي وحفلاتي وكنا اصدقاء فقط ، وكنت اجامله ) ولا اعرف لماذا ذكرت اسم جميل صدقي الزهاوي .
وتركت الاسئلة ،وبقيت اتطلع الى وجهها واركض بذاكرتي بعيدا الى زمنها الجميل التي كانت علامة فارقة من علاماته ، وكيف كانت (اميرة) في بهائها ،لايمكن لصوتها الا ان تتلقفه الاذان وتحتضنه القلوب ، اسمع اغنياتها من خلال وهج السحر في ملامحها ، شاهدت على صفحات وجهها اسماء واحداثا وذكريات وكم تمنيت ان تكون ذاكرتها قوية لتفصح عما اختزنته .
وبعد ان ابتدأت فقرات المهرجان جرى تكريم الفنانة بعد عرض فيلم بعنوان (معشوقة بغداد) عنها للعلاقة الكبيرة بينها وبين بغداد ، والذي اخرجه فريد شهاب ومدته (15) دقيقة ، والذي يتحدث عن شخصيتها ، تارة عن لسانها وتارة اخرى على لسان بعض من عاصرها من الفنانين ومن ابرزهم عازف الطبلة الفنان سامي عبد الاحد ، وقد اجشهت المطربة الكبيرة بالبكاء عندما سمعت امر السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية بتخصيص راتب تقاعدي لها مدى الحياة .
يبدأ الفلم بلقطة جميلة عن نهر دجلة الخير، ومن ثم منظر لشقة الفنانة عفيفة اسكندر الواقعة على شارع ابي نؤاس ، وبعدها تحدث عازف الكمان المشهور (آنذاك) سامي عبد الاحد والذي رافق المطربة في جميع حفلاتها قائلا : في مطلع القرن العشرين جاءت المطربة عفيفة اسكندر وهي صغيرة من حلب لتعيش في أربيل ، وهي صغيرة السن تزوجت من عازف كمان مشهور اخذت عنه اسمه (اسكندر).. عاشت الفنانة متنقلة بين الموصل وأربيل ، ثم تتحدث المطربة عفيفة اسكندر في الفيلم عن بداياتها الفنية قائلة : في أربيل كان عمري 8 سنوات عندما حضرت ذات يوم حفلة كانت المطربة فيها غائبة فتقدم مني منظم الحفل وسألني ان كنت استطيع ان احل محلها فاجبت بالايجاب وهكذا غنيت لأول مرة على خشبة المسرح وصفق لي الجمهور طويلا ، واضافت : في بداية عمل الاذاعة العراقية قدمت طلباً ( عريضة) للعمل في الاذاعة فكان الرد من الاذاعة انهم لا يريدون اطفالاً (زعاطيط) ،وكان في ذلك الوقت قد لمع نجم العديد من المطربين في الاذاعة امثال صديقة الملاية ورشيد القندرجي قارئ المقام المشهور، وكنت اتحدث اللهجة الموصلية إلاّ أن المطربة سليمة مراد علمتني كيف انطق اللهجة البغدادية وبذا صرت اغني الاغنية البغدادية مع وجود مطربين آخرين مشهورين.. وقد عشقت الاغنية البغدادية.. والمنولوجست ايضا، ويتحدث الفيلم على لسان احد الكتاب القدامى كيف ان اسم عفيفة اسكندر لمع بسرعة وبشكل كبير ويعود الفضل في ذلك الى جمالها الأخاذ وموهبتها القيمة ونطقها السليم لكلمات الاغاني وخاصة الاشعار ومنها اغنية
البهاء زهير :(يا عاقد الحاجبين / على الجبين اللجين / ان كنت تقصد قتلي / قتلتني مرتين)

عفيفة اسكندر في احدى حفلاتها في فترة الخمسينات على مسرح قاعة الملك فيصل الثاني
وكان للمطربة صالون ادبي كبير يحضره ادباء ومثقفون وشعراء تلك الحقبة الزمنية ومنهم حقي الشبلي، حسين مردان، مصطفى جواد، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ، ويتواصل الفيلم في عرض ذكريات عنها لسامي عبد الاحد فيقول عن واحدة منها : في حفل خطوبة احد وجهاء بغداد كانت المطربة تغني فحضر الحفل في بغداد الوصي عبد الاله والملك فيصل الثاني وكان المطرب الكبير ناظم الغزالي حاضراً، وقد غنّت المطربة في حفل خطوبة الملك فيصل الثاني في اسطنبول اغنية (جاني الحلو جاني) عام 1956، كذلك غنّت في بغداد يوم تتويج الملك فيصل الثاني ملكاً على العراق عام 1952
وتعود الفنانة عفيفة اسكندر للحديث قائلة : كان يحضر الى بيتنا رجال السياسة والادب وكان بيتنا مفتوحاً طوال 24 ساعة. وما زال مفتوحاً ، انا اول مطربة غنت في اول وصلة غنائية عند افتتاح تلفزيون بغداد عام 1956، وبحضور الملك فيصل الثاني ومن بعدي غنى المطرب الكبير ناظم الغزالي وكانت اغنية (هاي هم قسمة وعد.. جوز منهم) ، ويستعرض الفيلم بعضاً من اغانيها ومنها (قيل لي قد تبدلا) و (علي عنادك لاحبهم واحرك افادك) ، وتعود المطربة الكبيرة للحديث عن سيرتها : اشتغلت فيلمين روائيين الاول(القاهرة بغداد ) اخراج احمد بدرخان وتمثيل العديد من الممثلين المشهورين آنذاك منهم مديحة يسري وبشاره واكيم ، الفيلم الثاني كان( ليلى في العراق) الذي عرض لمدة اربعة اسابيع متتالية في سينمات بغداد ، ومن الممثلين العراقيين الذين شاركوا في الفلم الفنان العراقي المرحوم جعفر السعدي، والمطربة السورية (نورهان ) والممثل الكوميدي العراقي عبد الله العزاوي ، ثم يعود عازف الطبلة سامي عبد الاحد متحدثا عن اعتزالها الفن : في منتصف السبعينات اعتزلت الفنانة الكبيرة وهي في اوج عطائها الفني وشهرتها الواسعة، كما اعتزلت الظهور عبر وسائل الاعلام المختلفة ، وقال عنها مؤلف الاغاني المرحوم عبد الكريم العلاف : ( اودعت يد القدر فيها اوصافاً بدنية وتحلت في جمال ساحر من صنع الخلاق لا من صنع الحلاق) .
وينتهي الفلم على نغم اغنيتها (هزني الحنين لهلي والشوك بي زاد ـ هيا بنا يا ربع نمشي بدرب بغداد) ، وكانت حفاوة الجمهور بها كبيرة ، وقد ارتسمت السعادة على وجهها ، فكان يومها سعيدا وان كانت تشعر بالالم كونها اصبحت لاتمشي الا على الكرسي المتحرك .