الإثنين: 10. 10. 2005

قال عمرو موسى إن مهمته في العراق «ستكون صعبة وخطرة». وبالفعل هي صعبة وخطرة. ولو كانت غير صعبة وغير خطرة لذهب إلى العراق قبل الأمين العام أو معه أكثر من زعيم عربي، فالجائزة في حال نجاح المهمة لا شك كبيرة وما كانت لتضيعها دولة عربية. لكن يبدو أن عواقب الفشل أكبر وأكثر. لا يعني هذا أن دولاً لم تحاول في السر ما لم تفعله في العلن، إذ حاول مسؤولون أردنيون بوسائل عدة التدخل مع قوى عراقية ولم تفلح مساعيهم ومساعي مسؤولين من دول خليجية صغيرة. أما الأكثرية العظمى من الدول العربية، وخصوصاً الدول الكبيرة القادرة بسمعتها السياسية والمالية، أو بإحداهما، على جذب انتباه محاورين عراقيين، فلم تحاول أصلاً، ولديها أسباب مشتركة معروفة وأخرى خاصة ذات حساسية.

الأمر الآن بين يدي الأمين العام للجامعة، مكرهاً حسب ظني وليس مخيراً، فالرجل يعرف كثيراً من غير المعلن عن مواقف الدول العربية الأعضاء من الأزمة العراقية، وخصوصاً من موضوع التدخل فيها. ويعرف بالتفصيل الطلبات الأميركية الأخيرة، ولا أقول الضغوط، لدفع دول عربية بعينها إلى التدخل ثم الجامعة بأمينها العام. وأظن أن الأميركيين تحدثوا معه في تفاصيل ما تحدثوا فيه مع غيره من كبار المسؤولين العرب. ويعرف الأمين العام كثيراً عن جهود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي واتصالاته في العراق قبل أن تقرر الأمم المتحدة تخفيض مستوى دورها هناك لاكتشافها أن مهمتها كانت صعبة وخطرة. ويعرف، وهو الأهم، التقويم «الشخصي» للأخضر وتحليله لمواقف القوى العراقية وزعاماتها الدينية والدنيوية. بهذا المعنى يكون الأمين العام للجامعة على حق، وغير مبالغ إطلاقاً، حين يصف المهمة بأنها صعبة وخطرة.

هذه المهمة يحيط بها الخطر من جوانبها كافة كأي مهمة يقوم بها شخص عراقي أو غير عراقي في العراق في هذه الأيام التعيسة. ولعلها الأيام الأشد قتامة وتعاسة في تاريخ العراق الحديث، على رغم كل ما يقال عن الإنجاز الذي تحقق بإسقاط نظام حكم مستبد وشرير وعنيف. صحيح أن المشكلة الأمنية في رحلة الأمين العام وضمان سلامة اتصالاته بالأطراف كافة ستكون من اختصاص الطرف الأميركي، لا غيره. ومع ذلك فهذا الضمان أو التأمين لا يصب بالضرورة في صالح نجاح المهمة، وإن كان الأمل أن يصب في صالح أمنه وسلامته. إذ توجد قوى سياسية، أو قوى عنيفة، في العراق لا ترتاح إلى فكرة أن يأتي مبعوث العالم العربي إليهم ويجري التحاور معهم لإقناعهم وهو في حماية قوات الاحتلال.

ومع ذلك، فإن قضية الاحتلال والتعامل معه والاحتماء به خلال إنجاز الأمين العام لمهمته في العراق ليست الوجه الصعب الوحيد. هناك على الأقل وجوه ثلاثة أخرى. وجه منها يعكس مشكلة طغيان الغالبية، فالغالبية حسب «الفهم العراقي الجديد للديموقراطية» تعني إغفال حقوق الأقلية أو تجاهلها كلية. ولا يقلل من شأن الأمين العام أنه مبعوث دول يعتنق معظمها هذا الفهم للسياسة والحكم وليس بالضرورة للديموقراطية، وأقلها يعتنق فهماً آخر للسياسة والحكم اعتنقه العراق لسنوات طويلة، ويقضي بأن تتحكم أقلية قوية متنكرة لحقوق الغالبية، إن كان في هذا الإنكار تأكيد وضمان للاستقرار. ومع ذلك، يبدو أن الأمين العام سيحاول إقناع «التحالف غير المقدس» القائم بين قيادات الشيعة والأكراد بأن الديموقراطية تعني أشياء أخرى إلى جانب حق الغالبية المطلق في الحكم، وسيجد صعوبة في هذه المحاولة. سيجد صعوبة أيضاً في إقناع قيادات الشيعة بأن الفيديرالية في العراق سيباركها المسؤولون في الدول العربية الأخرى إن اقتصرت على الإقليم الكردي. وهو مدرك بلا شك إلى أن الفيديرالية كمفهوم غير مقبولة عربياً ولن تكون مقبولة في الأجل المنظور، وأنها مثل مفاهيم غيرها ترددت في الساحة العربية خلال العامين الأخيرين جاري انحسارها الآن خارج العراق.

الوجه الثالث لصعوبة مهمة الأمين العام للجامعة في العراق، إن تمت الزيارة، يعكس الحملة التي لطخت سمعة الطائفة السنية في العراق في العالم العربي، بل في العالم بأسره. إذ حذر كثيرون من مفكري وحكماء هذه الأمة من محاولات إثارة نعرات الطائفية والعرقية في المنطقة، سواء بتجاهل متعمد من جانب الأقليات أو الغالبيات الحاكمة لوجود طوائف أخرى غير طائفة الطبقة السياسية الحاكمة والمثقفة، أو بالسماح لأياد داخلية وخارجية مخربة بالتدخل، فتحرك سكوناً ساخناً أو تجرح سطحاً رخوا أو تعمق شروخاً قائمة. يذهب الأمين العام إلى العراق تلاحقه مقالات سيئة تنشر الكراهية للسنة أينما كانوا. أقول سيئة لأنها تتعمد ربط أهل السنة بالإرهاب العالمي، وبخاصة الإرهاب في العراق، ومعتمدة على استمرار تجاهل حقيقة أن الإرهاب ظاهرة عالمية وليست إسلامية وبالتأكيد ليست سنية أو شيعية أو درزية، وأن أسبابه وفيرة، وأن الاحتلال الأميركي جاء إلى العراق وفي ذيله إرهابيون. الاحتلال مسؤول عن الإرهاب في العراق وليس العراقيين السنة. وهو مسؤول أيضاً وبقصد سيئ، حين يصر على إنكار وجود مقاومة «مشروعة» ويطلق عليها جميعاً صفة الإرهاب.

المطلوب «أميركياً» من الدول العربية، وبالتالي من الجامعة العربية، أن تقنع أهل السنّة في العراق بالمشاركة في الاستفتاء على الدستور. وأظن أن جانباً أساسياً من جوانب مهمة الأمين العام يدخل تحت عنوان إجراءات تقوم بها قوة الاحتلال لإقناع السنّة، أو إجبارهم على، المشاركة في الاستفتاء. فالحرب المستمرة والمتصاعدة بوحشية منقطعة النظير ضد قبائل ومقاطعات السنة في أواسط وغرب العراق إجراء آخر جاء عقب فشل مباحثات كوندوليزا رايس مع قيادات السنة في زيارتها المفاجئة للعراق. أما الإجراء الرابع، وأظن أنه يتم لترطيب الأجواء قبل أن يدخل عمرو موسى إلى العراق، فهو الإيحاء المكثف بأن الولايات المتحدة غير راضية عن القيود الجديدة التي وضعها أهل الحكم في العراق على تصويت طائفة السنة على الدستور.

أمام الأمين العام صعوبات أهمها، كما ذكرت، قوة الاحتلال الراغبة بشدة في دور للنظام العربي يقوم به لتخفيف العبء عن الولايات المتحدة وليكسب به الرئيس بوش ورقة جديدة تساعده على تجاوز محنة سياسية لم يتعرض لمثلها رئيس أميركي من قبل. ومنها قضية طغيان الغالبية الحاكمة، وهذه أيضاً صنعتها قوة الاحتلال، ثم قضية الإرهاب الذي يشوه سمعة المقاومة العراقية وسمعة الفريق الذي سيحاول عمرو موسى إقناعه بالقبول بدور ثانوي في مسؤوليات الحكم والحياة، والإيحاء إليه بأن الطرق لم تسد جميعها ، وها هم العرب يقدِّمون على لسان الأمين العام الوعد بفتح طريق جديدة أمام أهل السنة. المهم أن يقتنع هذا الفريق من خلال زيارة الأمين العام بأنه غير محشور، وأن يرى في وجود عمرو موسى وجهوده أن طوق الحصار عليه لم يكتمل، فلا يدب فيه اليأس. ولكن هذا الفريق يخشى أن تؤدي مهمة الأمين العام إن فشلت إلى تعميق الوقيعة بين سنة العراق وسنة دول الجوار بعد أن صاروا جميعاً في سلة واحدة محكوماً عليهم باللعنة الأميركية، وربما الدولية. ولا تخفى صعوبات أخرى لا أظن أن الأمين العام، أو الدول التي كلفته، غافلة عنها. فهو يذهب إلى العراق، إن ذهب، مدركاً أن الدول العربية صدرته لأداء مهمة غير محددة تماماً ولا تحوز على اتفاق كامل ومؤكد من جانب الأطراف كافة. ويدرك أن المهمة سبق أن قامت بمثلها وزيرة خارجية الدولة الأعظم وفي جعبتها أرصدة لن يحمل مثلها الأمين العام للجامعة، وفشلت، بدليل أن أميركا تعود الآن، كعادتها في مواجهة مختلف أزمات المنطقة، إلى الدول العربية لتطلب منها المساعدة في الخروج من ورطة دفعها إليها أكاديميون واستراتيجيون وإيديولوجيون تمتعوا بدرجة هائلة من الجهل بشؤون العراق والمنطقة، وإن ادعوا العكس.

لا أستبعد، وإن كنت لا أتمنى، أن يقوم بعض الدول العربية الذي اشترك في تكليف الأمين العام بهذه المهمة الصعبة والخطرة بالتخلي عنه في اللحظة التي يتحسس فيها قلقاً داخلياً تثيره قوى غير واثقة من سلامة قرار التكليف أو غير مطمئنة إلى عواقبه طويلة المدى بالنسبة لها. ولا أستبعد أن تكون الولايات المتحدة نفسها أول من يتهم الجامعة العربية بالمسؤولية عن تدهور أحوال العراق إن لم يحقق عمرو موسى أهدافاً لها فشلت هي في تحقيقها بطرق أخرى.


كاتب مصري.