الجمعة: 14. 10. 2005

هي مهمة «صعبة للغاية» من دون شك، كما وصفها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في تعليقه على المهمة التي كلفته بها «اللجنة الوزارية العربية «لمعالجة الوضع في العراق، الا أنها يجب أن تكون مع ذلك كله محكومة بالنجاح – أو أقله عدم الفشل – أياً كانت المصاعب التي تقف في وجهها وتحول بالتالي دون عقد مؤتمر حقيقي للمصالحة الوطنية بين أطياف الشعب المتعددة، والمتنازعة فعلاً، في هذا البلد العربي الشقيق.

لماذا هي محكومة بالنجاح؟!، ليس فقط لأن الكارثة التي تحوق بالعراق لن تقبع داخل حدوده بل ستتخطاها حتماً الى دول الجوار كلها بما في ذلك الدول العربية، بل لأن ضحيتها الأولى والأكبر ستكون بالقطع شعب العراق وهويته ومستقبله الذاتي فضلاً طبعاً عن ثرواته الطبيعية والفكرية والانسانية. ولا تبرر هذا المصير، على رغم فداحة الجراح التي ألحقها النظام السابق بالشعب العراقي على اختلاف أطيافه، أية أحقاد على الماضي ولا أية نزعات للانتقام منه أو للحصول على ما يضمن عدم العودة اليه. كما لا تبرره، خصوصاً وبالذات، وقائع لم يعد ممكناً التغاضي عنها أو اغماض العيون ازاءها وتتعلق بسياسات واستراتيجيات خارجية تسعى، من خلال شرذمة النسيج الاجتماعي في العراق وحمام الدم الذي يلفه، لتحقيق مصالحها الذاتية وطموحاتها الاقليمية فيه من ناحية وفي المنطقة والعالم من ناحية أخرى.

بداية، وقبل مبـاشرة المهمة، لا بـد من التقاط اللحظة للاعتراف بحقائق سـابـقة... ليس من أجل «جـلد الذات»، كما هـي حـال العـرب فـي مواجهـة كل أزمـة تواجههم، وانما مـن أجـل الانطلاق منها الى «النقـد الذاتـي» وبالتالي الى التعلم من التجارب. هذه الحقـائق هي التالية :

أولاً: ان المبادرة العربية هذه، والتي تصح فيها على كل شيء مقولة «أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً»، قد جاءت بعد مرور فترة انتظارعراقية طويلة لها، فضلا عن أن للعراقيين مأخذاً كبيراً ومحقاً على الدول العربية وعلى جامعتهم هو غياب الجميع عن مشكلات العراق وشعبه طوال أعوام بل عقود كانت فيها الكارثة الأزلية – كارثة النظام السابق – تظللهم من أقصى الشمال الى اقصى الجنوب.

لا ينفع هنا، لدى العراقيين بخاصة وحتى لدى الشعب العربي في أقطار عربية أخرى، أن يقال إن «صحوة» العرب المفترضة على تلك الكارثة كانت تعتبر تدخلًا من دولة في شؤون دولة أخرى، تماما كما لا ينفع العتب على التدخل الفعلي السلبي... وللنظام السابق في العراق سجل حافل فيه، في لبنان على سبيل المثال، حتى لا نتحدث عن الكويت عشية الغزو وفي أثناء احتلال القوات العراقية له.

ثانياً: ان الاعتراض العربي، الشعبي والى حد ما الرسمي، على اجتياح القوات الأميركية للعراق لم يكن دفاعاً عن نظام صدام حسين، ولا تالياً مباركة للكارثة اليومية التي كان ينزلها بالشعب العراقي، بل لدواع وأسباب أخرى لعل أهمها ما يحوق بشعب العراق ووحدته وهويته حالياً تحت الاحتلال.

وعودة الى ما قبل الاجتياح الأميركي للعراق قد تفيد في هذا الصدد. في النقاش مع العراقيين كان بعضهم يجادل بأن لا أمل في الخلاص من نظام صدام من دون عمل عسكري خارجي، وكان الرد عليهم ينطلق من أن الخوف، كل الخوف، هو مما بعد ذلك. هل ما يزال لمثل هذا النقاش مجال بعد؟!

ثالثاً: قد يكون للأكراد ما يبرر اصرارهم على «حكم ذاتي»، ضيق أو موسع، للمناطق التي يعيشون فيها، أو حتى على «حكم فيدرالي» يمارسون في ظله هويتهم القومية الخاصة ولغتهم وتقاليدهم، لكن ما سقطوا فيه في أثناء صوغ الدستور يكاد يصورهم شعباً غريباً عن المنطقة ولا علاقة له البتة لا بتراثها ولا بتاريخها ولا بنضالاتها من أجل الحرية والسيادة والاستقلال من قيود الاستعمار الخارجي.

أما عندما يؤخذ «الحكم الفيديرالي» للأكراد ذريعة للتوسع في شأنه فيطاول أيضاً النسيج الطائفي والمذهبي والعشائري والقبلي للشعب العراقي، وعندما يكون بناة الذريعة والساعون لمدها على مساحة العراق كله يقيمون في خندق واحد و «يقصفون» منه كل من عداهم لدفعهم بدورهم الى انشاء خنادق خاصة بهم، تكون الكارثة الفعلية والنهائية هي ما يعصف بجميع «الخنادق» من دون استثناء.

تجربة لبنان يجب أن تكون ماثلة، وبقوة الآن، أمام العراقيين على اختلاف أعراقهم وطوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم. فلم يتمكن هذا البلد، على رغم مرور أكثر من ستين عاماً على استقلاله، من بناء دولة حقيقية لكل أبنائه لسبب وحيد هو أنه اعتمد لنظام الحكم فيه نوعاً، يسميه اللبنانيون خجلاً، بأنه «فيديرالية طوائف» موقتة تتقاسم فيها الطوائف والمذاهب سلطات الحكم... وعملياً فلا تزال المادة في الدستور التي تتحدث عن ذلك هي الثابت الوحيد في لبنان، بل ان التقاسم توسع ليدخل حرم الجامعة ومؤسسة رعاية الأطفال وجمعية الدفاع عن البيئة!!

ولكن ماذا يستطيع عمرو موسى أن يفعل، بل ماذا يجب في الواقع ألا يفعل، لتجنيب العراق ما يحوق به من كارثة تشرذم – وبالتالي زوال نهائي – اذا استمرت الحال على ما هي عليه؟! يكاد يكون خطوة على طريق الفشل اذا عمد عمرو موسى الى التشاور حول مهمته مع ممثلي الطوائف والمذاهب والإثنيات في العراق. صحيح أنه لا يجوز تجاهل واقع العراق التعددي طائفياً ومذهبياً واثنياً، الا أن المدخل الى «المصالحة الوطنية» وتالياً الى تأكيد وحدة البلد من هذا الباب سيعني، في ما يعنيه، تكريس انقسام الشعب تحت مظلة البحث في توحيد البلد أرضاً ونظام حكم. هل يمكن توحيد بلد على قاعدة أن الشعب فيه منقسم على نفسه؟!

قد يقال أن القوى غير الطائفية أو غير المذهبية، والقوى غير القومية بالمعنى الشوفيني للكلمة، تكاد تكون غير فاعلة حالياً أو هي ضعيفة جداً في العراق. وقد يقال أن نحو ثلاثة أعوام من الاحتلال الأجنبي، بعد نحو ثلاثين عاماً من الحكم «الاحتلالي»، جعلت الغرائز تطغى على ما عداها لدى الكثير من العراقيين، وأن تجربة أعوام طويلة من العقوبات الخارجية، بما فيها العربية، مضافة الى العقوبات الداخلية التي مارسها النظام السابق، حولت العروبة بالنسبة لبعض العراقيين الى ما يشبه «أسطورة عفّى عليها الزمن». وقد يقال، وقد يقال... الا أن ذلك كله هو الذي عبر عنه عمرو موسى عندما وصف المهمة بأنها «صعبة للغاية»، ويريد محبو العراق وشعبه ألا تكون في النهاية مستحيلة.

قبل ذلك، وربما معه، ينبغي للأمين العام للجامعة العربية أن يكون مدركاً تماماً – من طريق زيارات شخصية للبلدان المجاورة للعراق، وأحاديث مع دول ما يسمى بالتحالف الدولي وفي مقدمها دولة الاحتلال الأولى، الولايات المتحدة – لما تريده هذه البلدان من العراق وفيه الآن وفي المستقبل.

وفي العراق، على خلفية ذلك كله، يبدو أن اللامنطق هو العنصر السائد في هذه المرحلة. يقول ذلك علنا تفسير الاستفتاء على الدستور بأن ما يلزم لاسقاطه هو ثلثا أصوات الناخبين، بينما المنطق يقول ان رقم الثلثين قد يكون مطلوباً لاقرار الدستور وليس لاسقاطه. كما يقوله علناً أيضاً حديث الأكراد عن الحاجة الى أن يكونوا ممثلين في كل سفارة من سفارات العراق في الخارج. الا أن تغليف الخوف من اعلان هوية العراق العربية من طريق الهروب من اعلان أية هوية له قد يكون أكبر الكوارث.

... وربما يكون المنطق، بديلاً للامنطق السائد، هو مدخل الأمين العام لجامعة الدول العربية الى مهمته « الصعبة للغاية « في العراق.


كاتب لبناني: "لكي تنجح مهمة عمرو موسى «الصعبة للغاية» في العراق".