مشاري الذايدي

اذكر إن فيلم عمر المختار، اسد الصحراء، كان من الافلام القلائل التي حظيت بمباركة الاسلاميين، ومنحوه شرف المشاهدة والترويج، ولكن بعد اسلمته اكثر، من خلال ازالة الخلفيات الموسيقية، وإبدالها بأصوات الاناشيد الجهادية، والاكتفاء بالأقل القليل من مشاهد النساء، مع قلتها اصلا.

مخرج هذا الفيلم، السوري العالمي مصطفى العقاد، قتل في عملية «جهادية» في احد فنادق عمان، ومعه ابنته، ربما من شخص شاهد هذا الفيلم بنسخته الاسلامية، او بعث وجند من قبل شخص شاهد عمر المختار، بصبغته العقادية. والمعنى: هناك حالة افتراس ذاتي داخل المسلمين، والمعنى ايضا: تآكل أي امكانية للتعبيرات السلمية عن الموقف والرؤية، كما هو الحال مع مقتل الرافض للاستعمار، سينمائيا، مصطفى العقاد.

الحديث ليس عن الراحل مصطفى العقاد، مع انه تسنى لي الالتقاء به والحديث معه، مرات قليلة، خرجت منها بانطباع مفاده إن الرجل ينطوي على فؤاد قومي النزعة، مشدود إلى النموذج الناصري، قضيته الاساسية مقاومة الغرب والبحث عن الوحدة العربية، وليست الحداثة او مقاومة التصحير المدني والثقافي الذي يغزو المسلمين والعرب، ورأس حربته التيار الاصولي، وتماسيح الاستبداد السياسي العربي.

القضية أخرى، فالأردن بلد يفخر باستقراره وكفاءته الامنية، وحينما زرت عمان قبل بضعة اسابيع، شاهدت بأم عيني شعور الامن في عيون الجميع، والغريب انه امن ناعم لا يشعر به، ولا مظاهر فاقعة له، مع أن الاردن وحكمه على خط النار الاول مع جماعات القاعدة والإرهاب الديني، ناهيك عن براكين فلسطين وسورية ولبنان المجاورة. لكنه الآن تحول من حالة الصراع الخفي مع الارهاب إلى الحرب المفتوحة معه بعد حصول 11 سبتمبر اردني!.

الزرقاوي شخصيا حاول استهداف الاردن اكثر من مرة، ولا يكاد يمر اسبوع في عمان دون عقد جلسة محاكمة او استماع لاحد المتهمين بإحدى قضايا الارهاب الديني من انصار الزرقاوي ، او ما يسمى بخط الجهادية السلفية، كما اخبرني قاضي محكمة امن الدولة الاردنية شخصيا. وانا حضرت بعض هذه الجلسات، وأذهلني حجم العناد ومقدار الشر الذي يملكه هؤلاء الشباب من خلال ترديد الهتافات التكفيرية والمتوعدة من داخل قفص المحكمة.

هل نقول إن الارهابيين في الاردن فئة محدودة وشرذمة شاذة، كما يبدو إن البعض يريد تكريس هذه الصورة ؟ اقول: لا ونعم ! لا اذا كان المراد نفي وجود انصار صرحاء لهم او انصار نصف صرحاء من اهل ثقافة التبرير، الذين توعدهم الملك عبد الله الثاني شخصيا في اول خطاب له بعد تفجيرات الفنادق الكبرى في عمان، ونعم اذا كان المراد الحديث عن حجمهم العددي.

يجب إن نكون صرحاء، الشارع الاردني لديه نزعة ميالة إلى اهل المقاومة والمقاومين ومن يقاوم... وهو مرتع خصب لنظريات المؤامرة، منذ ايام البعث السوري ونظام صلاح جديد، وايام المنظمات الفلسطينية ودولة مخيم الوحدات، وايلول الاسود. والناصرية، مرورا بحرب الخليج الثانية، وهتافات التأييد لصدام حسين عندما غزا الكويت، وصولا إلى التأييد الخفي او شبه الخفي الذي لمسته هناك لابن لادن او الزرقاوي، فالأخير، هو رمز لدى أردنيين، عن المجاهد الذي اذل الصليبيين الامريكان في العراق، وتحاك حوله قصص البطولة، وقال لي احد ابرز انصاره في مدينة السلط الاردنية، إن الزرقاوي هو مجدد الاسلام الحقيقي في هذا الزمان، اما غير الاصوليين فيظهرون تأييدهم للزرقاوي من خلال اتهام الامريكان بتشويه صورته، وتحميله كل شيء، بينما هو المجاهد النقي الصادق، كما قال لي احد محاميه الاردنيين.

دائما ما نردد عند حصول المصائب: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» لتسلية النفس والبحث عن الجانب المضيء في المأساة، وقد وجدتني اقول ذلك، وانا اشاهد حجم الدمار الذي اصاب هذه الفنادق، وعدد الضحايا الابرياء الذين سقطوا في هذه المجزرة الزرقاوية، الذين كان من الممكن أن اكون شخصيا احدهم لو تقدم التفجير بضعة اسابيع حينما كنت في عمان. لا يوجد شيء يعزي من فقد حبيبا او ابنا او والدا في هذه المقتلة، ولكن عنيت الحديث عن امكانية إن يتسبب هذا الحدث الرهيب في احداث صدمة ايجابية تزلزل اوهام الوجدان الشعبي لدى بعض الاردنيين المتمحورة حول غفران كل شيء تقوم به اذا كنت تستهدف الغرب والامريكان، دون الاصغاء إلى تحذيرات من يحذر من أن نار الاصولية المتعسكرة لا تفرق بين غرب وشرق.

لا نريد حصر الكلام عن امراض الشارع الاردني، فجل الشوارع العربية كذلك، الاختلاف في المقدار لافي النوعية، فهناك حالة وله وغرام بالاصولية والحلول العدمية، وهناك شعور متنام بالكراهية والارتياب، ورغبة مظلمة بالردة عن العصر وسياقات اللحظة الزمنية.

فحسب استطلاع اجرته مؤسسة زغبي العالمية، بالتعاون مع مجلس الأعمال العربي، شمل مواطنين في السعودية ومصر والأردن ولبنان والمغرب والإمارات العربية المتحدة، ونشرته صحيفة «الشرق الأوسط»، فإن غالبية مواطني الدول الست يفضلون تطبيق الشريعة الاسلامية على مشاريع الأعمال، وعبر غالبية المشاركين في الدول المعنية، باستثناء لبنان، عن تأييدهم لتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في قطاع الأعمال. وفي لبنان، عبرت الغالبية الساحقة عن رفضها للفكرة، فيما ايدها من المسلمين هناك فقط 27 في المائة. وفي السعودية، قال 82 في المائة ممن شملهم الاستطلاع انهم يؤيديون تطبيق الشريعة في مجال الأعمال، بينما عبر 14 في المائة عن رفضهم للفكرة.

الاستطلاع كشف نتائج مذهلة حول اراء هؤلاء المواطنين في اصلاح التعليم، ومدى ثقتهم بكون الاسلاميين هم الذين سيطبقون الديمقراطية لو وصلوا إلى الحكم ...

لكن لاحظ ايها القارئ الكريم، 82% من السعوديين يدعون إلى تطبيق الشريعة في مجال الاعمال، وكأن السعودية ليست اكثر بلد في العالم العربي تلتزم بفتاوى الشيوخ والفقهاء في كثير من مجالات الحياة، إلى درجة التفرد في العالم كله بهذه الحالة، ومع ذلك هناك كثيرون يريدون المزيد والمزيد ...

ماذا يعني هذا؟ هل هو قرار نابع من تقويم مصلحي بحت، ام هو جزء من صراعات الهوية، والرغبة في استخدام أي شيء، بصرف النظر عن فهمه واستيعابه، من اجل تعميق الفجوة مع العالم، والتخندق على الذات اكثر واكثر ...

انها ازمة هوية، قبل إن تكون ازمة سياسية او اقتصادية او اجتماعية، وما وجود شرائح واسعة في الاردن إلى لحظة تفجيرات عمان، تميل للزرقاوي او تدافع عنه، وما وجود حالة تطرف متزايدة لدى شرائح من السعوديين او غيرهم، تدفع باتجاه التشدد ووعي الهوية المتخندق، الا تجليات لهذه الازمة الضاربة، التي لا يبدو اننا نرى نورا في نهاية نفقها.. لأننا وإلى هذه اللحظة لا نرى ذلك النور...