البابا والمفكر يماني وقراءة في حوار الحضارات

تشاء الأقدار الإلهية أن أعود لبريطانيا بعد مرور ما يقرب من عشرين عاما على مغادرتها بعد إتمامي الدراسة العليا في جامعة مانشستر البريطانية، وفي الأسبوع الأول من قدومي إليها لباعث إنساني محض، رحل واحد من بقية رؤساء بريطانيا المعمرين وهو (جيمس كالاهان) والذي قاد الحكومة العمالية بأغلبية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة بين السنوات 1976/م - 1979/م، وكان (كالاهان) وزيرا للخارجية في عهد حكومة (ويلسون) الثالثة بعد سقوط حكومة إدوارد هييث،والتي شكلت سنة 1974/م، وعندما استقال (ويلسون) فجأة سنة 1976/م، تسلم كالاهان منصب رئاسة الوزراء، ولكن النقابات العمالية التي كان (كالاهان) في الأصل محسوبا عليها خذلته وتسببت فيما عرف في تاريخ بريطانيا بـ(شتاء الغضب) فإضراب أفراد هذه النقابات تسبب في امتلاء شوارع المدن البريطانية ومنها (لندن) بالنفايات ، وبلغ الأمر حدته عندما تركت جثث الموتى دون دفن أو مراسم توديع وكان (كالاهان) خارج بريطانيا فلما رجع سأله الصحافيون في المطار عن الأزمة في البلد! فأجاب عن أي أزمة تتحدثون ويذكر نصيره وزير ماليته (دينيس هييلي HEALEY) في مذكراته التي يصفها الصحافي البريطاني المتخصص في صحيفة الصنداي تايمز (ماريتان هاريس) (Martyn-Harriss) بأنها سرد لحياة سياسي ومفكر ماهر لم تمكنه الظروف مثل: المفكر والسياسي الآخر المحافظ (راب بتلر) (R.A. Butler) من أن يصعد هرم السلطة في حزبه، يذكر المفكر والمنظر (هييلي) أن (كالاهان) بتلك العبارة التي صاغها في أسلوب تهكمي أي أزمة؟ أنه في تلك اللحظة فقد التصاقه بالمواطنين، وجاء بحر السياسة المائج بالزعيمة المحافظة (مارجريت تاتشر) 1979/م-1991/م، والتي استطاعت أن تدخل في جسد الاقتصاد البريطاني مشروع الخصخصة إضافة إلى تمكنها من تحجيم القيادات النقابية الجامحة، وعندما خذلها الرفاق - وكثيرا ما يخذل القوم رموزهم أو يرمونهم زورا بما ليس فيهم. وهو إن كان أمراً شاذا إلا أنه يحدث عند جميع الأمم وفي كل الحضارات ولكنه عند بني قومنا أعظم!، نعم عندما خذلها رفاقها من أمثال (جيفري هاو)، و(مايكل هزلتاين) وآخرهم وزير ماليتها الموهوب (نايجل لونسو)، خرجت أمام عتبة 10 دواننغ استريت لتعلن استقالتها وكان الدمع يغالب عيني المرأة التي كانت في مجلس العموم تجادل واحدا من أبرز المتحدثين بلاغة وفصاحة، الزعيم العمالي المعروف ببساطته وعفويته حقا في تاريخ بريطانيا، مايكل فووت Michael-foot، فيتعادلان أو يصرع أحدهما الآخر ولكنهما يتناولان فنجان قهوة ودّي بعد صراع ما يُعرف بـ (الديسبتاش بوكس).

وأزعم أنني عاصرت بعض هذه الأحداث وإنني اليوم أكتب من الذاكرة ولئن ضعف جسدٌ، وأُنهكتْ قوى، وتكالبَ دَهْرٌ، إلا أن المشاهد لا تغيب عن ذاكرة عرفت الحرف وشجونه منذ ما يقرب من أربعين عاما متتالية. ثم فجأة ينقل التلفزيون البريطاني مرض بابا الفاتيكان (جون بول الثاني) ورأيت الآلاف يشدون الرحال إلى روما وتغص بهم ساحة (الفاتيكان) فتأكد عندي ما كنت ذكرته من قبل وهو انحياز الغربيين لدياناتهم المسيحية إن لم يكن في صورة طقوس دينية، فهو يتبدى في صورة مبادئ وقيم يحاولون التشبث بها وسببه طغيان الجانب المادي في الحضارة الغربية المعاصرة وخلوها من الجانب الروحي للانفصام النكد بين الكنيسة والعلم.

وعندما عدت إلى موطني - بلد الرسالة حيث تتعلق النفوس المؤمنة بالبيت الحرام حيث نزل الوحي، وولد سيد الكائنات حقا- محمد بن عبدالله عليه صلاة الله وسلامه، وحيث طيبة الطيبة مسجد المصطفى ومثواه الطاهر وصحابته وآل بيته رضي الله عنهم - تصفحت بعض ما فاتني من قراءته وخصوصاً صحيفة المدينة الغراء بملاحقها المتميزة الرسالة والأربعاء، فلفت نظري ما كتبه معالي المفكر (السيد أحمد زكي يماني) عن ذكرياته مع (البابا) والذي قابله في منتصف الثمانينيات الميلادية وأن لقاء المفكر (يماني) بالبابا يذكرني باللقاءات العلمية التي تمت بين علماء مسيحيين كاثوليك، وعلماء مسلمين من المملكة السعودية وكان ذلك في التسعينيات الهجرية - السبعينيات الميلادية - وفي عهد المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز، وهذا الحدث التي استضافته فرنسا كان الخطوة الأولى في طريق حوار الحضارات والتي بدأ الحديث عنه غربياً وعربياً بعد أحداث سبتمبر. ولقد كانت النشأة الدينية للمفكر (يماني) حيث تلقى العلم على يد علماء ربانيين بين أساطين المسجد الحرام يأتي في مقدمتهم فضيلة شيخنا العلامة حسن المشاط، وفضيلة الشيخ عمر حمدان المحرسي، وفضيلة الشيخ محمد بن مانع، إضافة إلى والده- العالم الزاهد حقا- فضيلة الشيخ حسن يماني، وعززته دراساته وقراءاته المتعددة في أمهات كتب المتون واليوم بعد أن رأت عيني في هذا العالم الكثير من المشاهد استطيع القول بكل حيادية بأن السيد يماني من أكثر من رأيت اهتماما بالقرآن، واعظاماً لآي الذكر الحكيم، وكان يحتفي بكبار القراء في البلد الحرام من أمثال المشايخ، زكي داغستاني، ومحمد الكحيل، وزيني بويان، ولقد حضرت في الشقة المتواضعة التي كان يتلقى العلم فيها بعض طلاب والده السيد حسن بن سعيد يماني -رحمه الله- والقائمة بالقرب من الحرم المكي الشريف في حي (أجياد) الشهير حضرت جلسات دينية كان فيها الشيخ زيني ورفاقه من القراء المجودين يرتلون آيات الذكر الحكيم، فترق نفوس، وتهمي دموع، ويشهد أخي وصديقي الأستاذ محمد نور مقصود على ما ذهبت إليه فلقد كنا ننعم بأبوة وتوجيه رجل الفضل في مكة الوجيه الشيخ عبدالله بصنوي، وكان المفكر (زكي) -أطال الله عمره- يجلس مع عامة الناس، ويبدي كثيرا من التجلة والاحترام والتقدير لمن تلقى العلم عنهم، -خصوصا- فضيلة الشيخ حسن المشاط- والذي كان من أكثر علماء عصره زهداً، وكان الحرم المكي يشهد دروسه ودروس علما أجلاء حظيت بالأخذ عنهم أو مجالستهم من أمثال المشايخ فضيلة السيد علوي المالكي، ومن بعده ابنه السيد محمد، وشيخنا المحدث محمد نور سيف، وفضيلة الشيخ عبدالله بن حميد وفضيلة السيد محمد أمين الكتبي الحسني وفضيلة الشيخ عبدالله بن دهيش، وفضيلة الشيخ عبدالله اللحجي وفضيلة الشيخ عبدالله خياط وفضيلة الشيخ عبدالله الخليفي، والشيخ إسماعيل الزين، والسيد حسن فدعق، والسيد علي البار، والشيخ عبدالله دردوم والشيخ محمد ياسين الفاداني والشيخ محمد مرداد، ولقد جلست إلى هؤلاء وسواهم وكان من حلقات العلم المشهورة في الحرم المكي الشريف في الفترات السابقة، حلقة الشيخ عبدالرزاق حمزة، ويحيى أمان، وسالم شفي، وأحمد ناضرين، وعلي مالكي واسعد مالكي وجمال مالكي والسيد أبوبكر شطا وأبوبكر خوقير، وعيسى رواس، وسواهم.

وأعلم أنه من سمات أبي هاني الصمت والهدوء والحلم- ولكن اهتمام العبد الفقير إلى الله بالوضع السياسي والفكري والأدبي لبريطانيا قادني لقراءة بعض مذكرات كبار هذه الشخصيات التي لا تلقي الكلم على عواهنه وقليلاً ما تدون شهادات لأناس من عالمنا، وفي مقدمات هذه الشخصيات المتحدث باسم مجلس العموم البريطاني ومنزلته المعنوية أي منزلة صاحب هذا المنصب أعلى رتبة من رئيس الوزراء كان المتحدث السابق لمجلس العموم (جورج توماس) George-Thomas، من أشهر وأبرع من شغلوا هذا المنصب الهام في سلم السياسة البريطانية وأدبياتها المعروفة، هذا الرجل المختلف عنا تصورا وفكرا وحضارة والذي يصنف على أنه من المتدينين Anglican نسبة للكنيسة البريطانية البروتستانية، نعم هذا الرجل يروي في مذكراته التي حملت عنوان (Mr. Speaker) والصادرة في لندن عام 1985/م، - بأنه التقى المفكر (يماني) فوجده مع صديقه (السير جوليان هودج) : مهلُب- َفىٌِّت إنسانا مثقفاً، ويحمل في طيات نفسه وقارا وجلالا طبيعيين وانه عميق التدين من غير تعصب وهو في هذه الشهادة المنصفة من الآخر يتفق مع المفكر العمالي = دينيس هييتلي - والذي يذهب إلى أن (يماني) ترك في نفسه إعجاباً مقارنة بـ(نظرائه) الذين التقى بهم، ويذكر الكاتب روبنسون أن توماس ألقى سؤالاً في تعمد على الشيخ (زكي) عن اليهودية كدين سماوي فكانت إجابة -يماني- إن الذي أفسد العلاقة بيننا وبين اليهود هو الحركة الصهيونية فقبل احتلال فلسطين كانوا يعيشون بين ظهرانينا وهذا أمر هام في السياق الغربي لارتباطه بمفهوم السامية وبدأت رحلة أخرى من رحلات الحوار الحضاري تعرف (توماس) من خلالها في التسعينيات الهجرية على بلدنا المملكة السعودية بتاريخه وحضارته فهو يشيد بالعاهل السعودي الراحل الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- واخوته الكرام، ويتذكر كيف أن عامة الناس كانت تجلس مع الخاصة على مائدة واحدة وأزعم أنني حضرت بعض هذه المجالس التاريخية في منزل أبي في الطائف وكان من الحضور أهل الشامية وفي مقدمتهم الوالد الشيخ عبدالله بصنوي، والشيخ عبدالرحمن أبو ارشد، والشيخ حسن زيني آشي وأخوه أحمد والاستاذ محمد عمر خياط، والشيخ أحمد راوه والشيخ علي فلمبان والشيخ عباس بشاوري والوجيه هلال شيث سنبل، ورجال كرام من أمثال: عمر عيوني، وإبراهيم صيرفي، وطاهر بغدادي، ودرويش دوش، وعربي مغربي، وعبدالعزيز محضر، وعمر وحسين غزَّواي، ومحمد قطان، واليابا رجب، وسلمان فوال، وعبدالقادر البري رجال - لقي الكثير منهم - وجه ربه، ولكنني ذكرتهم استئناسا بما طوفت به في هذه الكلمات بين الشرق والغرب، آملاً ومتطلعاً أن نعمق دواعي الحوار الهادف بيننا من دون أن نلقي بالكلام على عواهنه وخصوصاً فيما يتصل بعقائد الأمة فالدخول في هذا الباب صعب فلقد قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله (اعراض المسلمين حفرة من حفر النار)، مع أنني اعتقد أنه ليس هناك من هو منزه ومعصوم من الخطأ إلا سيد البشر - عليه صلاة الله وسلامه-، ولكن كلام أخيك في أمر من الأمور يفترض أن تحمله على المحمل الحسن ولا تحمله ما لا يحتمل ولا تخرج به عن الأهداف والمقاصد السامية والرفيعة.

وقال العلامة المفسر والفقيه الأصولي المعروف (جمال الدين القاسمي) رحمه الله (يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي - في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا) وزاد يقول جزاه الله عن أمة الإسلام خير (وبالجملة فمشرب المحدثين في التسامح ونبذ التعصب هو الذي تقتضيه الأحوال، وتقبله العقول، وما أحدث من النبز بالفسوق للبعض فلا سند له).

وختم الشيخ (القاسمي) كلامه في هذا المنحى وفي كتابه القيم (الجرح والتعديل) -مؤسسة الرسالة بيروت 1399/هـ - 1979/م) بما نصه (ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله سبحانه (وقولوا للناس حسنا)، وقوله جل ذكره- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وختاما- اللهم أجمعنا بعد عمر مبارك في دار مثوبتك اخوانا على سرر متقابلين وصلى الله على من ختم الله به الرسالات وطهره وأهل بيته تطهيرا ورضي الله عن صحابته وعترته المباركة.