الإسلام – لا الشريعة الإسلامية – مصدر من مصادر التشريع

يتشاغل العالم العربي بالمفرقعات، وينشغل العراقيون بالدستور، وسط محيط لا دستوري. وهذه المشاغل ليست سارة تماماً، وان كانت مهمة. ويدقق العراقيون على مواقع الانترنت وفي الصحافة المطبوعة أو الاعلام المرئي، في كل كلمة وفاصلة، بل يمحصون الاسماء أهي نكرة أم معرفة مشفوعة بـ (أل) التعريف. لم يبلغ الصراع على المعاني هذا القدر من الاتساع والتعقيد. وهو اصطراع المفاهيم الجديدة مع ثفالات (الثفالة تعني ما يترسخ في اسفل الكأس أو القنينة من بقايا) الفكر القديم.استقبل العراقيون بعد جدب فكري حضور اولى كلمات مثل العولمة، أو دراسة النظريات الاجتماعية، من المفاهيم الجديدة: الفيديرالية، التوافقية، اللامركزية، مثلما استقبلوا مسميات اثنيات واديان ومذاهب لم يألفوا تداولها منذ العهد الملكي (اليزيدية والصابئة والشبك، الخ).ويتمحور الاستقطاب الفكري على ازواج عديدة من المتضادات: الاسلامية مقابل العلمانية، والمركزية مقابل اللامركزية، أو المركزية مقابل الفيديرالية، وهلم جرا.وتتركز السجالات اكثر ما تتركز على العلاقة بين الدين والدولة، أو بتحديد أدق هل يكون الاسلام المصدر الوحيد للتشريع، أم مصدراً واحداً من مصادره؟

باتت هذه القضية واحدة من المشكلات الكبرى التي تواجه دول المنطقة، في الفكر والسياسة معاً، منذ صعود الاسلام السياسي في سبعينات القرن المنصرم. فالدساتير في البلدان العربية والمسلمة تورد بند "الاسلام دين الدولة" كتحصيل حاصل برغم ان جل دول العالم (140 دولة مثلاً) لا تورد ذكراً لدينها. ولم تحمل الدساتير العراقية منذ 1925 أية اشارة الى مصادر التشريع. لعل الاستثناء الوحيد هو دستور الجمهورية الثانية (عبدالسلام عارف 1964)، الذي تنص مادته الثالثة على ان "الاسلام دين الدولة والقاعدة الاساسية لدستورها". وكما نعلم ان هذه الجمهورية عرّفت العراق بأنه دولة ديموقراطية (بلا انتخابات) واشتراكية (يحكمها العسكر)، وكانت اكثر الجمهوريات تعصباً بالمعنى الطائفي للكلمة، برغم اسرافها في الحديث عن الاسلام.ويبدو لي ان اصرار ممثلي الاسلام السياسي المحافظين، على ادراج الاسلام (او الشريعة) مصدراً وحيداً للتشريع على قاعدة "ان التشريع لله وحده"، يشبه اصرار العسكر على تسمية جمهورياتهم الاسرية بـ"الاشتراكية" و"الشعبية". فهو ادعاء ايديولوجي بامتياز، نظراً لان تحريم حق البشر الفانين في التشريع ينطبق على القائلين به مثلما ينطبق على غيرهم، وأي استثناء يعني ادعاء نوع من الالوهية غريب.يخاف الاسلاميون المحافظون العلمانية باعتبارها انكاراً للاديان، وهذا خلط بالالحاد الفلسفي. فهذا الاخير انكار للدين جملة وتفصيلاً. اما العلمانية فليست مذهباً سياسياً بل هي موقف ودعوة الى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، أو بالاحرى المؤسسات الدينية، تنظيم يرمي الى حماية الدين من غول الدولة، وتمييز المجال السياسي عن المجال الديني، أي الفصل على مبدأ الاختصاص.

ويميل قطاع من العلمانيين لأسباب وجيهة الى استخدام لفظ "الوضعية" أو "المدنية" بديلاً عن العلمانية، لما شاب هذه الاخيرة من ادران بسبب الجهل وسوء النية وتحاملات العوام.ويضرب موقف العلمانيين أو الوضعيين (وأنا منهم) جذوره في منطق الدولة الحديثة، الذي يختلف عن النظام السياسي والاجتماعي مما ساد في الامبراطوريات المقدسة، حيث يقوم المركز (المخزن عند المغاربة) بجمع الخراج، وحماية الثغور، وترك الجماعات المعزولة تعيش على وفق شرائعها المتعددة، حيث تزدهر المذاهب والمدارس حتى داخل الدين الواحد نفسه.الدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة المجرد، وعلى دستور موحد، شامل، لكل الاجزاء، لا لجزء منفرد، وعلى تقديم الرعاية والخدمات الاجتماعية من دون تمييز، واحترام حرية المعتقد، والعبادة، من دون مساس بحرية الآخرين. معلوم ان ثمة فوارق كبيرة بين الاسلام كدين، والشريعة، أو بين الاسلام والفقه، ويخلط بعض الاسلاميين خلط عشواء بين هذه المفاهيم.فالدين منظومة فكرية مركبة، وهو ايضاً مؤسسات تتولى انتاج المعرفة الدينية، كما ان مدارسه الفقهية بالغة التنوع، وتحديدها مصادر الشريعة غاية في الاختلاف. ويمكن الحديث عن مكونات الدين الفكرية (أي دين) باعتبارها مؤلفة من علم الكلام (المختص بالذات الالهية وخلق الكون) والفقه السياسي (نظرية الامامة أو الخلافة)، فقه العبادات (الفرائض)، وفقه المعاملات (التجارية وعقود النكاح).

لم يعد لعلم الكلام من وجود، على الرغم من ثرائه الفلسفي. اما الفقه السياسي فان الحضارة الاسلامية عموماً ما عادت تنادي بالامامة في قريش، بينما تميل المدرسة الاصولية الشيعية الى نبذ اساسها القديم عن ان الامامة حكر على الامام الغائب، وان كل دولة في عهد الغيبة باطلة.اما فقه العبادات فهو شأن لم تعمد دولة معاصرة الى المساس به، برغم ما ينطوي عليه هو الآخر من تباينات بتباين المدارس والمذاهب (من الآذان، الى الصلاة بسبل اليد أم كتفها، الى الزكاة وسبل دفعها، وما شاكل).ولا يختلف فقه المعاملات (في شقه التجاري) عن ذلك. لقد نما هذا الفقه في حاضنة الاقتصاد الحرفي والزراعي القديم، وواجه مشكلة عصيبة في التكيف مع الاقتصاد الصناعي المالي(المصرفي) الحديث (مشكلة البنوك الحديثة والقروض والسندات والأسهم)، وان حرمانه التطور يرجع الى تزمت بعض فقهاء القرن العشرين الذين ضحوا بسبب تزمتهم نفسه بكل جوانب الثراء في فقه المعاملات. مع ذلك يتكيف هذا الفقه عموما مع الاقتصاديات الحديثة ببطء.

أخيرا ثمة فقه عقود النكاح، وقواعد تنظيم الأسرة. ولعلها أكثر مواضيع الخلاف والإختلاف إحتداما، ولاسيما مسألة تعدد الزوجات وحقوق الارث، وحضانة الأطفال. ليس سرا ان الفقهاء، بل المسلمين بعامة يتباينون في تأويل الشريعةهنا تباينا كبيرا، وينقسمون الى تيارات محافظة، ووسطية، وإصلاحية جذرية.هذا التباين في العناصر المكونة للفقه، يوازيه تباين آخر في مصادر الشريعة : أهي القرآن الكريم وحده، أم القرآن والسنة (كما يرى الآخرون) أم القرآن والسنة والعقل الإجتهاد (حسب فهم رابع)، والإجماع؟.حقاً ان فهم معنى الاسلام مصدراً للتشريع يتعدد بتعدد فهمنا معنى الشريعة ومصادرها، كما يتعدد بتعدد الاجتهادات داخل مكونات الفقه (الفقه السياسي، فقه العبادات، فقه المعاملات). وهذا التعدد الذي نما عبر تاريخ الحضارة العربية الاسلامية، مفيد لجهة اغناء الفكر وتطوره، ان قام على قاعدة احترام التعدد والاعتراف به، ومدمر تماماً ان مشي على ارضية احتكار جهة واحدة للحقيقة، وسيادة هذا الاحتكار حقيقة تفقأ العين.ان الدعوة إلى فرض الاسلام (او الشريعة) كمصدر وحيد للتشريع ينطوي ضمناً أو صراحة على حكم رجال الدين لتفسير معنى الاسلام، ووضع فئة واحدة لا تزيد على بضعة آلاف موضع القيّم على تفكير الملايين، واحلال الاكليروس محل الأمة. وهذا جانب مهم بل اساس عند معالجة مسألة الدين والدولة. فالدين ليس محض منظومة اعتقاد وشرائع، بل هو ايضاً مؤسسات يديرها بشر فانون، لهم من المطامح والمصالح ما لغيرهم، ونظرة إلى طبقة رجال الدين، او المشتغلين بأمور الفقه، تفيدنا انها، شأن مجتمعها، مبرقشة من حيث منحدرها القبلي، والجهوي، والاثني، وانها تتوزع على المكونات الاجتماعية بين ريفيين محافظين، وحضريين متنورين، وان انتماءاتها الاجتماعية تتداخل بانتسابها الفقهي، والايديولوجي، وهي ليست منزهة عن الغرض البشري والمصالح الاجتماعية وان حصل انسلاخ عن هذا الغرض، فذلك يشكل الاستثناء لا القاعدة.ونلاحظ ان مساعي "أسلمة" الدستور تترافق مع عمل قاعدي لـ"اسلمة" المجتمع، بفرض الحجاب (المرأة هي الهدف الاول دوماً)، وفصل الجنسين، بل تحريم المصافحة، وغلق دور السينما، ومنع الموسيقى (جرى تحطيم محال بيع الاشرطة)، وغلق محال حلاقة النساء، علاوة على تحديد نمط معين من حلاقة الرجال (اغتيل عشرات الحلاقين في بغداد وجوارها).وبهذا تُختزل الأسلمة سياسياً الى احتكار الفقهاء و/أو الاسلاميين لحق الحكم تنفيذاً وتشريعاً، كما تُختزل اجتماعياً الى اختراق المجال الخاص للفرد، وفرض منظومة قيمية محددة (محافظة في الاغلب) للملبس والمأكل والمشرب وغير ذلك. عدا هذا لا يملك الاسلاميون برنامجاً. وتجد هذه النزعة المحافظة في خدمتها ريفيين مخلوعين يتلذذون برمي بنات الحواضر السافرات بالحجارة، أو فئات هامشية عدوانية، محطمة روحياً بحكم العوز والاهمال، وهي مستعدة لأن تنزل بالهراوات على طالبات الجامعة او تطلق النار على الحلاقين.وباختصار تتشكل النزعة المحافظة من تحالف عريض لا يقتصر على الفقهاء أو الزعامات التقليدية، اذ ينجذب الى هذه الحركة، في طور صعودها عدد من الراغبين في الافادة من فرص الصعود الاجتماعي.وحين يجري ذلك في دولة متعددة المذاهب والاديان ومتنوعة في تنظيمها الاجتماعي والقيمي (بين ريف وحضر وبلدات طرفية)، فانه يكون وصفة للخراب.من هنا ينبغي ان نحرص على ما يأتي:

- الاعتراف بالاسلام مصدرا من مصادر التشريع، واكرر: الاسلام، وليست الشريعة، فالمعنى مختلف والمبنى مخالف.

- التمسك بفقرة عدم تشريع ما يتنافى مع مبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان.

- الابتعاد عن تخصيص اية فقرة عن المرجعية بدعوى وجوب حمايتها من تدخل الدولة. فالحاصل الآن هو ضرورة حماية الدولة من تدخل المراجع الدينية واذا كان لا بد من فقرة قانونية بهذا الصدد فالافضل ادراج مادة تشير الى الاحترام المتبادل، احترام الدولة لكل المراجع الدينية بلا استثناء (مسلمة ومسيحية وصابئية وغيرها)، واحترام المراجع للدستور والقوانين العامة التي يرضى بها الشعب باغلبيته المطلقة (الثلثين).

- وينبغي الالتفات الى موضوع المرأة، ولاسيما مسألة الحفاظ على قانون الاحوال الشخصية، بل السعي الى تطويره، وتبصير دعاة الغائه بالعواقب.

استاذ جامعي وباحث عراقي مقيم في لندن مؤلف كتاب بالانكليزية عن شيعة العراق والمقال ينشر بالتعاون مع صحيفة "المدى" العراقية.