يمكن الافتراض أن الشعور الذي عمّ اللبنانيين بعد انتهاء ديتليف ميليس من مؤتمره الصحافي هو... الظمأ. لنقل إنه نوع من عدم الارتواء. فلا الأسئلة كانت، بالضبط، هي المطلوبة، ولا الرجل كان ينوي الكلام أصلا. ثمة مكان جدي للحيرة في توزيع المسؤولية بين السائلين والمجيب.
شكك ميليس في تقريره الإجرائي الى مجلس الأمن في اوضاع الأجهزة القضائية والأمنية. وربما بات في وسعه، بعد ما حصل أمس، ان يضيف أوضاع الصحافة اللبنانية. يستوجب أداء الزملاء وقفة. فالقضية المطروحة مصيرية الى أبعد حد. والمؤتمر يعقد في ظرف شديد الحساسية. ثم إنه يعقد بعد اعلان مسبق بما يتيح، مبدئياً، إمكانية الاستعداد. ومع ذلك...
لقد كانت الاسئلة الذاهبة مباشرة الى صلب الموضوع قليلة. ولوحظ انه عندما جرى انتزاع شيء ملموس فإن احداً لم يبنِ عليه ولم يحسن المتابعة. أوحى الزملاء والزميلات بضعف اطلاع على الملف، وبالإصرار على طرح اسئلة بدت كأنها معدة بحيث ان هناك من بدا وكأنه لم يستمع جيداً الى أجوبة كان في وسعها أن تغنيه أو أن تغريه.

ربما كان السبب في ذلك هو الشعور الضمني لدى الجميع بأنهم يعرفون lt;lt;الحقيقةgt;gt; سلفاً وأن ما يجري هو طقس شكلي فحسب. وربما كان السبب قلة العادة في تبادل الأدوار بحيث يكون القاضي في موضع متلقي الاسئلة. وربما كان السبب ضعف الاختصاص. يمكن القول، ايضاً، إن هذه الأسباب كلها التقت من اجل انتاج هذا المشهد المحزن وهو مشهد لا تكتمل عناصر الحزن فيه إلا عند استذكار زملاء آخرين يتصرفون باستمرار وكأنهم يعرفون عن عمل ميليس اكثر من ميليس نفسه!
إن المؤتمر جدير بأن يدرّس في كليات الاعلام تحت باب lt;lt;ما يجب تجنّبهgt;gt;. فنحن لسنا امام مقابلة يجريها صحافي واحد. لذلك كان يتوجب الحرص على عدم التكرار، وعلى الاستفادة من اجوبة سابقة للاستطراد، وعلى تدعيم السؤال بمعلومة، وعلى الإيحاء بمعرفة دقيقة بالموضوع... صحيح ان الصحافة الاستقصائية الجدية غير رائجة في لبنان ولكن ذلك لا يبرر ضعفا أراح ميليس في قضية على هذا المستوى من الخطورة.
لا يلغي ما تقدم أن ميليس لم يبرر كفاية مؤتمره. لقد كان lt;lt;بخيلاgt;gt; ومن المشكوك فيه أنه كان تجرأ على فعل ما فعله لو انه في ألمانيا مثلا. لقد وصل وقراره متخذ بأن lt;lt;يسرّبgt;gt; القليل. الا ان هذا القرار نفسه ذو معنى بعد الحماوة الاستثنائية للايام الاخيرة فالبرودة البريطانية للمحقق الالماني بدت هادفة الى إعادة تصويب التوقعات وإلى منع الشطط في التفسيرات، وإلى تبريد اللعبة في انتظار المزيد.

ربما كانت lt;lt;المعلومةgt;gt; الاساسية التي ذكرها هي تعريف lt;lt;الشبهةgt;gt; التي قادت المسؤولين الامنيين السابقين وقائد الحرس الجمهوري الحالي الى مونتي فيردي مع lt;lt;نصيحةgt;gt; من اللجنة الى القضاء اللبناني بتوقيفهم. الشبهة هي المشاركة في التخطيط. ولكن، هنا ايضا، جاء الكلام غامضا ولم يستوضحه الزملاء: هل خططوا مجتمعين؟ هل من دور عملاني لهم؟ ما الفرق، مثلا، بين التخطيط بالتحريض والتخطيط التنفيذي؟ ما معنى العبارة الدقيقة التي ذكرت وفيها lt;lt;إلى حد ماgt;gt; وlt;lt;التخطيط الذي ادى الى الاغتيالgt;gt;؟.اورد ميليس معطيات اخرى. لقد ركز على lt;lt;قرينة البراءةgt;gt; مقيما الفرق بين الشبهة والاتهام والإدانة. ولم يحسم في ان الشبهة ستقود lt;lt;المشتبه بهمgt;gt; الى المحاكمة. نفى وجود اي lt;lt;مشتبه بهgt;gt; سوري كما وضع المستوى السياسي اللبناني والسوري خارج إطار المساءلة الراهنة. تحدث عن أدلة مادية وعن افادات شهود وأوحى انه بات يملك فكرة وأن تقدما يحصل ولو ان الصورة لم تكتمل نهائياً وأن مشتبها بهم آخرين سيظهرون. رمى ما يشبه التحدي على الاجهزة القضائية والأمنية اللبنانية في نوع من التلميح الى ان تلبيتها لدفتر شروط معين قد يلغي الحاجة الى محاكمة دولية...
المهم اننا لم نتقدم كثيراً بعد المؤتمر على طريق المعرفة قياساً بما كنا نعلمه غداة نشر التقرير في سياق اكثر التفسيرات محافظة لمعنى الإجراءات اللاحقة.

ربما كان علينا ان نخرج بملاحظة سياسية قد يكون ميليس أرادها او قد تفرض نفسها من دون رغبة منه.
فبعد التقرير والتوقيفات بدا أن الخط البياني المتصاعد لامس العتبة التي يمكن معها إطلاق الحملة ضد رئيس الجمهورية إميل لحود وخوض المواجهة الاخيرة معه. ان المؤتمر الصحافي، بهذا المعنى، محطة توحي أنه من المبكر ربط التحقيق بمصير الرئاسة الاولى (او العكس). لم يوفر ميليس زاداً مقنعا لمعارضة راديكالية تريد وضع قضية الرئاسة في lt;lt;امر اليومgt;gt;. لا بل يمكن القول إنه احبط هذه المعارضة بعض الشيء فارضا نوعا من هدنة إلزامية يترجمها سلوك رئيس الحكومة فؤاد السنيورة اكثر من غيره من المتصلين ب14 آذار. المترددون في الموضوع الرئاسي باتوا، بعد المؤتمر، أكثر ترددا.
والواضح أن لحود التقط هذا المعنى فصدر عن مكتبه الاعلامي البيان الذي صدر والذي يعقد صلة بين lt;lt;الوقائع الدامغة والأدلة الثبوتيةgt;gt; وبين دور للقضاء اللبناني وبين الإصرار على تحمل المسؤولية الدستورية.
... إلا انها جولة فقط. وهي تؤكد حصول تقدم في التحقيق وتشير الى اتضاح معقول في وجهته ونهايته من دون ان يقلل من ذلك انها لا توفر اساساً لاستثمار سياسي مباشر. لقد أينعت الثمرة، او هي في طريقها الى ذلك، لكن موسم القطاف لم يحن بعد. إنه على الأبواب. لا بل إنه يطرق الأبواب بقوة.