بعد ان أعيا الجميع تفسير سقوط الألف عن جسر الائمة صباح 31 آب، لم يعد الخبر نفسه متصدرا. لم يكن نصه على قدر قوته فأُهمل واختفى عن الشاشات. حدث كتسونامي واعصار كاترينا لم يبق في البال سحابة يوم واحد. عرضت السعودية على الولايات المتحدة ان تساعد على معالجة مفاعيل اعصار كاترينا ولم تعرض على الجار العراقي مساعدة في معالجة مضاعفات حادث جسر الائمة. يقدم العراق كل يوم للعالم أرقاما دامية لم تعد مع التكرار تخيف احدا. ثمة بلدان تُترك إلى ان تشفى من عنفها. تُعامَل كما لو كانت معزولة في مصح عقلي الى ان تهدأ من هياجها، ان لم نقل ان ما يجري فيها لا يهم اكثر من حرب بين الديناصورات او قبائل آكلة للحوم البشر. اختفى خبر جسر الأئمة لأنه بدا أبكم او متلعثما وشاقا على السمع. لم يستطع الدفاع عن نفسه فبدا كأنه لم يحصل. في المساء صار علينا ان نبحث عنه في الهامش الذي في اسفل الشاشات. بدا كأنه توقف عن ان يتفاعل في العراق نفسه. عدا عن تصريحات رسمية لم نسمع ان مرجعا كالسيستاني مثلا وضعه في نصابه، أما شيعة لبنان فكانوا ملهيين، شأن اللبنانيين جميعا، بتوقيف الجنرالات الأربعة. مع ذلك فإن الخبر نفسه لا يُسعف في اجتذاب اي رد، بل انه كان يقلّ معلوماتٍ شيئا بعد شيء حتى انه في النهاية لم يترك سوى لغز فحسب. لم ينهر الجسر ولا سقطت اجنحته فبدا الامر كأنه حادث زحام. الألف ماتوا دوسا واختناقا، وعلى الاغلب رموا بأنفسهم الى النهر. ولما تأكد ان انفجارا من اي نوع لم يحصل وسط الجموع المتدفقة على الجسر طوي الخبر وظهر اصغر بكثير من مفعوله.

التفسير الوحيد المفهوم هو ان ذعرا لا يُصدَّق ألقى بالناس على بعضها ودعا مئات الى النجاة بنفسها في الماء، والى تقديم الغرق على شيء ادهى منه وأفتك. التفسير الوحيد الذي بلغ هو ان شائعة وجود انتحاريين وسط الحشود اطاحت بصواب الجميع ودفعتهم الى جنون جماعي. شائعة كهذه لا تحتاج الى كثير خيال. من يعرف ماذا جرى في عاشوراء الماضية لن يسأل ولن ينتظر حتى يصدقها.
من بلغه خبر الانتحاري الذي استعجل ان يلقى ربه بدماء 32 طفلا استطابوا الشوكولا الاميركية يصدق ذلك بلا تردد. من يعرف ان هناك ذلك العدد من الانتحاريين التواقين الى استقبال الجنة بدماء اكثر ما يسعهم سفكه من دماء الشيعة يصدق ولا يفكر. من يسمع بيانات الزرقاوي التي تساوي بين الكفرة المحتلين والكفرة المرتدين الذين لا سبيل لديهم الى الفرار بجريمتهم الاصلية التي وقعت منذ 15 قرنا، من يعرف كل ذلك، وهو في علم كل عراقي، يصدق بالطبع. ليس وجود انتحاريين على الجسر شائعة بمعنى الشائعة. انه احتمال كبير كان ينبغي ان يحتاط منه الجميع وألا يتركوه يدهمهم وهم وسط الجسر. هذا هو الغريب الذي لم يستسهل العالم فهمه. في الثامنة والنصف صباحا جاء الانذار صريحا وداميا: بضع قذائف هاون على الكاظمية اوقعت سبعة قتلى. سبعة قتلى لكن الجمهور بقي يتدفق على الجسر. جمهور مليوني استمر في زحفه الى المدينة المقدسة. لم يكن هناك إنذار القتلى السبعة فحسب، بل ذكريات عاشوراءات دامية وعصابات تستحل القتل في اي طرف واي مكان ولا تستحي من المناسبة ولا العدد. استمر الدفق الى الجسر بعد ان مر ايضا بمناطق خطرة وساخنة، كان الخطر ماثلا وملموسا، لكن مئات الآلاف تقدمت غير آبهة. شيء اشبه بتلك الرحلة الدامية التي تقوم بها أسماك الى مواطنها الاولى ويفنى جلّها في الطريق. نتساءل كم هي كثيرة الامور الأعلى من وجود مسلم وشيعي خاصة، واذا كان لهذا الوجود مع كل هذه الدواعي قيمة خاصة. ليست بالطبع رحلة انتحارية لكنها ايضا سباق مع الموت، بل هي إعلاء مستمر وتطهّر مستمر بهذه الشراكة مع الخطر. لا نتكلم على التكفير وحده لجماعة نشأت من ذنب اصلي ومن حدث دموي ايضا، يمكننا ان نفكر بأن الجواب كان غالبا دمويا، وبأنه مع الزمن يغدو بأحجام ملحمية.

ما دُفع زمن التقية لم يكن اقل من زمن الظهور، وما يجري الآن على الجسر مواز للمقابر الجماعية التي برزت في كل مكان. انها حالة طوارئ دائمة وحياة من الخطر العادي، ومع ذلك فإن الذعر الهستيري الذي هو دفاع عن الحياة ساد الجموع التي لم تثنها المناطق الساخنة ولا قذائف الهاون القاتلة عن مواصلة السير. أهذه مفارقة أم وضع نموذجي. ان نصير بشرا امام الخطر الذي لم نتجنبه. الخطر الذي لفرط ما صحبناه بتنا نتمثله من وساوسنا ومخاوفنا. أهذه مفارقة ان يجن الجمع على الجسر ويستمر الموكب في الكاظمية. النعش الرمزي المكسو بزخارف الآيات او الاسماء القدسية. يتقدم وعلى ناصيته العمامة الخضراء. اللطامون يقرعون صدورهم على وقع الطبول. حاملو السلاسل يهوون بها على شمالهم ويمينهم بايقاع مضبوط. الرعب في مكان والرقص في مكان آخر. تنتصر الحياة على الرمز هنا، وينتصر الرمز على الحياة هناك. أهذه مفارقة ام وضع نموذجي. الناس يلقون بأنفسهم الى الماء الذي لا يحسنون العوم فيه هربا من انفجار يحولهم الى نتف. أهو هرب من مشهد الى مشهد: مشهد يفقد فيها المرء جسده ويتحول الى لحم مطحون مع قاتله ومجاوريه؛ ومشهد يموت فيه واعيا موته، مقبلا عليه بجسده كله كاملا. او لنقل انه هرب من ماكينة قدر عمياء الى مصير شخصي. نتساءل اذا كان يختلف موت عن موت، ام انه خيار lt;lt;صوفيgt;gt; وإن اكثر حشرة. خيار lt;lt;صوفيgt;gt; كان غالبا قدَر الشيعي العراقي. ففي الحصار الدائم كان الخيار دائما بين موت وموت، موت أبكر من موت وموت أعم من موت. انه خيار دعم السلم الاهلي بثمن استباحة بلا دفاع، والدفاع عن هوية عراقية دونها فدراليات، والقيام بأكثرية مشلولة حيال الاقليات الخاصة ومنبوذة من اكثريات المحيط. هكذا لم تفعل المرجعيات الشيعية والرسمية بعد حادثة جسر الأئمة، سوى التهوين. فلم يحل المساء حتى اعلن انها حادثة زحام ضخمة، لكنها مجرد حادثة. هكذا امكن طيّ المسألة قبل ان تغدو سؤالا، والحؤول دون تحدٍّ ليس من قوة تعادله. شيء اشترك فيه، بترحيب، الشيعة الآخرون وغير الشيعة، اذ طاب للجميع، لأسباب مختلفة، طي هذه المسألة.

الحَرَج ليس واحدا بالطبع، لكن سقوط ألف عن الجسر لن يكون، مهما كان الظرف، حادثا فحسب. لم ينفجر انتحاري وسط الجمع لكن الجميع ألقوا بأنفسهم الى النهر لمجرد اشاعة ان انتحاريا قد ينفجر بينهم. ذلك يعني ان هذه lt;lt;المقاومةgt;gt; التي لم يشذ اي طرف رئيسي فيها عن اعتبار الشيعة هدفا معلنا، باتت تحتاج الى تعريف محدد. الاميركيون بالطبع عدو محميّ لكن الشيعة عدو ظاهر، واستباحته بالطبع اسهل واقل تكلفة، هكذا تغدو الاكثرية الاكيدة غرض مذبحة دائمة. نعرة كهذه تملك تغطية ايديولوجية دينية وسياسية راسية راسخة، وما دامت في منأى عن الحساب فإن قتل الشيعة سيبقى دائما مبرَّرا. هناك من يرفض التكفير وقتل الابرياء لكن المقاومة تبقى بالنسبة إليه هي المقاومة، والاساس النظري الذي يسمح بقتل الشيعة يبقى الاساس. الاميركيون عدو يستحق القتال، ومن يتعاون معه في تكوين جيش او دولة او مجتمع عدو مثله، هذا هو الاساس الذي لا يُهدم والذي معه يغدو قتل الشيعة الدائم والمستمر شططا تجاوزا فحسب. الاساس هو ان بناء عراق، ولو بأدوات عراقية، جريمة ضد الدين، بالطبع ناهيك بأن التشيع نفسه زندقة وارتداد. حين نجد في ذلك مقاومة ووطنية وعروبة، يجوز عندئذ اعتبار السفاحين قتلة وعروبيين ووطنيين، والدفاع عنهم كلما بدا ذلك غير فاضح، وتأييدهم بالصمت وفي السر حين لا يمكن الجهر. لكن الواضح ان الجميع لا يتهمون حربا اهليه من طرف واحد بالتقسيم ولا باللاوطنية ولا بتدمير المجتمع والدولة والبلد كله. لا تدان الحرب الاهلية بالانقسام والطائفية بقدر ما تدان الفدرالية، وبقدر ما يدان الاعتراف بأقليات لا ترفع السيف على المجتمع او هي وضعته من زمن، وبقدر ما تدان الاكثرية لسكوتها عن استباحتها الدموية وانصرافها الى بناء دولة وسياج. لا شك في ان الصمت العربي او الالتفاف العربي حول lt;lt;المقاومةgt;gt; يفتح جروحا اخرى. انه تعبير عن ان الاكثرية المتعصبة او الاكثريات المتعصبة يمكنها ان تتحول بسهولة الى نعرات، وأن تسلك مسلك اقلية محاصَرة وتمتنع عن ان تكون قاعدة للدولة والأمة، وان تتحول طوعا الى اطار نبذ واعتداء ولا اعتراف بالآخرين. الصمت العربي حيال ما يجري هو نبذ للأقليات جميعها وتوكيد على التباس lt;lt;القوميةgt;gt; بهذه الاحادية وذلك النبذ. وإذا التفتنا الى ان رعاية الاقلية هي الآن عمود الديموقراطية المعاصرة، فهمنا كم نحن بعيدون بمسافات ضوئية عنها.

تُدين اطراف سنية التكفير وقتل الابرياء، لكنها لا تتجاوز ذلك الى حد ادانة lt;lt;المقاومةgt;gt;. انها تنجر أكثر فأكثر الى اتهام عسف يخترق ايضا نسيجها الداخلي ويعطل فاعليتها ويؤخرها عن الاندراج في مشروع عراقي. لكنها مع ذلك تتأخر عن رفض قوة عسكرية لا تستطيع ان تخرجها من رصيدها. مجزرة الألف، وخلفها مجزرة كل يوم ضد الشقيق الشيعي، تقضيان ببراءة كاملة وقطع كامل مع هذه lt;lt;المقاومةgt;gt;، بدونهما لا يقوم عراق ولا يقوم وطن. مهما أطلنا في الحديث عن الفدرالية ومهما كان رأينا فيها، فإننا مع الحرب الاهلية لا نبني بلدا، وبدون التبرؤ من الحرب الاهلية لا ننقل معنا الى المؤسسات الجديدة سوى الحزازات.
لم ينجرّ الشيعة كطائفة الى الحرب الاهلية. انها حالة نادرة تقوم فيها الاكثرية بمكانها وحيزها ودورها. انها قاعدة ما يسمى بالشعب والأمة، ولا يسعها ان تتصرف كأقلية محاصَرة. أعرف ان هناك انتقامات وانتهاكات كثيرة، وان بعضاً من هؤلاء وأولئك يستولون على مساجد سنية ويقتلون شيوخا ويتعرضون لمسافرين ومارة. ليس هذا بالطبع هيّنا ولا بسيطا، والفظيع انه قد يتحول مع الزمن والضغوط، الى قاعدة. فثمة هنا فصائل مسلحة وثمة جماعات عسكرية، ولا يحتاج الامر الى غير الشرارة الأولى.

كم يكون الأمر خطرا حين تنغمس الاكثرية في حرب اهلية. لكن الشيعة لم ينجروا، كطائفة، رغم الاساس العسكري لتنظيماتهم الرئيسية. هذا ما ينبغي تثمينه ودعمه. وليس في اعتباره مجرد ثمن للسلطة وللتعاون مع الاميركيين، ما يساعد على ابقاء الاكثرية رادعا وضمانة. انه ثمن لتقديم السلم الاهلي على القسمة الوطنية اذا جاز ان نسميها هكذا. ثم انه ثمن آخر لتقديم المتطلبات الداخلية على الصراع الخارجي، إذ رغم الحضور الايراني الكثيف في المنظمات الشيعية لا يمكن الكلام على سياسة ايرانية للشيعة العراقيين. انه درس ايضا للشيعة. اعرف ان الشيعة ليسوا امة ولا كيانا واحدا، ولا اريدهم كذلك، لكني اتوقع ان يتفهموا بعضهم بعضا. اتوقع ان يتحرى الشيعة اللبنانيون مثلا مقومات الوضع العراقي وألا يتجاهلوا خلاصاته وعِبَره. وسيبدو مستغربا الا يكون كل ذلك جزءا من سجالهم والا يدخل في نقاشهم العام. يمكنك وانت تسمع اذاعة lt;lt;البشائرgt;gt; التابعة للسيد محمد حسين فضل الله ان تفهم ان كلاما عن الجهاد والسلم الاجتماعي والحذر من عبادة الدولة والتردي الى الفاشية، ليس بعيدا عن الاصغاء الى ما يجري في العراق. لكن الغريب ان اسمع في lt;lt;المنارgt;gt; عشية مجزرة الجسر مذيعا مصريا يحتج على اكتفاء مناقشيه المصريين بدعم المقاومة العراقية ويطالبهم بالذهاب أبعد من ذلك. الذهاب الى ماذا؟ الى المشاركة المباشرة في ذبح الشيعة العراقيين. ليس هذا بالطبع مذهب lt;lt;المنارgt;gt; لكن هفوة المذيع هي بنت التباس موقفها ولغتها. ما دام الاعتراف بالمقاومة العراقية كمقاومة قائما لا كطرف يتذرع بالاميركيين حجة لمباشرة الذبح الاهلي، ما دام هذا الاعتراف قائما فإن مشروع قتل الشيعة المموَّه باسم المقاومة يلقى مواربة مشروعة، بل يستفيد من التباس اسمه بالمقاومة اللبنانية الشيعية المجيدة شيعيا وعربيا واسلاميا. لا يسع حزب الله ان يسكت بأي اسم كان عن هذا الالتباس، وعليه تقع مسؤولية فضحه وكشفه، فقتل الاطفال وتفجير الذات في الاحياء وقرب المساجد الشيعية هو صلب lt;lt;المقاومةgt;gt; العراقية اليوم، المعلن والصريح على ألسنة قادتها وبياناتها. هناك حرب اهلية واضحة انقسامية ولاوطنية، وضد العراق، ولا اسم آخر لها، وعلينا جميعا ان نعلن ذلك بدون حَرَج، حرصا على الاقل، على عدم انجرار الاكثرية إليها، ما يعني بالطبع خسارة العراق. علينا أيضاً أن لا نتجاهل ما يقال تكراراً عن دور lt;lt;الشقيقgt;gt; في التسهيل للقتلة. إنه دَيننا تجاه العراق العظيم، كما يقال، وتجاه الآلاف الذين يُقتلون بقسوة وبلا رحمة يزكيان الاستعمار والاميركيين.

مع ذلك، فإن للشيعة العراقيين دروسا توازي الدروس اللبنانية: تقديم السلم الاهلي على الانقسام الوطني. تغليب البناء الداخلي على المعركة الخارجية. قيام الاكثرية بمكانها ودورها كقاعدة للدولة والمجتمع واستنكافها عن لعب الاقلية المحاصَرة والتصرف كنعرة نابذة لبقية الجماعات والاقليات. انه درس ثمين، والأرجح ان من يذبحون (الشيعة) اليوم يجعلون منه هدف جريمتهم الأول.