د. عبدالحميد الأنصاري


منذ هجمات سبتمبر علي برجي الشموخ الأمريكي علي أيدي فتية وصفوا بالعظماء التسعة عشر، ظنوا انهم يغزون في سبيل الله، انتقاماً للكرامة الجريحة وإعلاء لشرف الأمة وثأرا من عدوة الاسلام والمسلمين، وما تلي ذلك من تفجيرات طالت معظم عواصم العالم بدءا بتفجيرات مدريد فلندن وباريس، مرورا بعواصم الدول العربية فهجمات بالي بجاكرتا وانتهاء بمأساة اطفال بيسان بروسيا، والعالم يتوجس من المسلمين ومن كل ما هو إسلامي.

تلك التفجيرات روعت شعوباً عديدة، وأصابت أبرياء آمنين من غير جريرة، وخلفت المئات من القتلي والجرحي، وتسببت في دمار مرافق ومنشآت حيوية، لم توفر تلك التفجيرات شيئاً إلا واستهدفته: فندقاً أو مدرسة، مطعماً أو مستشفي!! ولم تراع حرمة لشيء: مسجداً أو مزارا دينيا أو كنيسة!! ولم تبال بأي مخلوق مسلما أو غير مسلم، طفلا أو رجلا، عسكريا أو مدنيا!! لقد توّحش الإرهاب وأصبح همجيا ضاريا لا هدف له إلا الانتقام من العالم بتحويل شباب متحمس لدينه الي قنابل بشرية مدمرة ثم التباهي بها عاليا في فضائيات ومواقع الكترونية بوصفها جهادا واستشهادا أمر به الدين.

لقد كان الأوروبيون فيما مضي ينظرون بقلق الي ما يتعرض له السياح الأجانب في البلاد العربية من اعتداءات وخطف واتخاذهم رهائن وقد ينتهي مصير بعضهم الي قطع رؤوسهم والتمثيل بجثثهم علي يد جماعات اصولية في العراق تدعي ان دينهم يسوغ ذلك العمل الوحشي وتنقله الفضائيات لتزيد من قلق الأوروبيين!! لقد كان الأوروبيون يظنون انهم بمنأي عن الارهاب وانه لن يغادر الأرض العربية ولذلك استضافوا رؤوس التطرف عندهم - استرضاء لهم - واحتضنوهم ومكنوهم وبخاصة (لندن) التي أتاحت لزعمائهم فرص الانتشار والتغلغل بين شباب الجاليات الاسلامية فزادوهم خبالا، منحتهم حق اللجوء ومعظمهم فارون من أحكام قضائية في بلادهم ولم تسمع للتحذيرات والنصائح ثم أفاقت أوروبا علي وقع التفجيرات الارهابية في عقر دارها وعلي يد أبنائها من الجاليات الإسلامية ليدركوا أن سياسة تدجين الذئاب غير مجدية!!.

الآن يقول الأوروبيون ان الارهابيين الاسلاميين المحليين مثل النمو السرطاني يفتك في الجسد الأوروبي وأنهم الخطر الأكبر علي مستقبل أوروبا، هم أقلية ولكنها عالية الصوت، واسعة النفوذ، وتحظي بالقبول وسط الجاليات الاسلامية. يتساءل الأوروبيون بقلق: لماذا لا تندمج الجاليات الاسلامية كما اندمجت سائر الجاليات الأخري؟! لماذا يختار المسلمون ان يعزلوا أنفسهم في جيتو كما يفعل اليهود؟ كيف تحول انتحاري لندن شهزاد تنوير الباكستاني الاصل وقد نشأ وسط عائلة نموذجية محبة للحياة الغربية الي قنبلة مدمرة؟! هل عداؤه لسياسة بلده في أفغانستان والعراق مبرر لهذا السلوك الإجرامي في وسط مجتمع يتيح له كل وسائل الاعتراض؟!.

يتساءل البريطانيون من الناس العاديين: لماذا يعاقبون بزرع المتفجرات في شوارعهم وقطاراتهم مع انهم معارضون للحرب في العراق؟! ويتساءل الفرنسيون: الي متي يستمر شعور المسلمين بالاغتراب عن المجتمع الفرنسي؟! ويقلق الهولنديون عندما يسمعون قاتل المخرج الهولندي (فان غوخ) اثناء محاكمته وهو يفتخر بانتمائه الي القاعدة والي بن لادن ويقول: ان الاسلام يبرر العنف في قتال الكفار!!

الأوروبيون الذين فتحوا بلادهم امام الدعاة الاسلاميين وسمحوا بالمراكز والمساجد والمدارس الاسلامية لنشر الاسلام في المجتمع الغربي ومنحوا المسلمين كامل حرياتهم وحقوقهم الدينية والمدنية والسياسية الآن يتوجسون كثيراً ويشعرون بالمرارة تجاه بعض المسلمين الذين عضوا يد العون وتنكروا للجميل. وقد ازداد قلقهم تجاه الإرهابيين الجدد، عيون زرقاء وشعر أشقر - يقول مدير الاستخبارات الفرنسية: الذين اعتنقوا الاسلام مؤخرا 1600 حسب معلوماتنا وان واحدا من اصل اربعة منهم ينخرط في صفوف التطرف الاسلامي!! والحالة نفسها في بلجيكا مثيرة للقلق فأول مفجرة انتحارية أوروبية، بلجيكية اعتنقت الاسلام وارتبطت بعلاقة عاطفية مع شاب مغربي ثم ذهبت الي العراق وفجرت نفسها!!.

يتساءل الأوروبيون: لماذا ينتشر الفكر المتطرف بين معتنقي الإسلام الجدد من الأوروبيين؟ وما دور الدعاة المعتدلين الذين يذهبون الي أوروبا كل عام؟ وما فاعلية المراكز والمؤسسات الاسلامية كالمجلس العالمي لعلماء المسلمين اذ لم تحصن الشباب ضد اخطار التطرف؟! لقد سأل جمال خاشقجي في مقالة له: أصحاب الفضيلة العلماء المجتمعين في استنبول: لماذا يقع بعض الشباب حديثي التدين في فخ التطرف؟! وأتصور انه لا جواب لأن أصحاب الفضيلة أنفسهم مشغولون بلوم الآخرين، لا يريدون ان يعترفوا بقصورهم!! ولأنهم هم انفسهم لا يجرون حواراً ناضجاً عقلانياً بين أنفسهم أولاً ليكشفوا أوجه الخلل العميقة في طروحاتهم الفكرية!! ولأنهم يرفضون تجديد خطابهم الديني عبر نقد الذات والمراجعة المعمقة لأبنيتهم الفكرية!! معظم الطروحات الدينية تستبطن عقلية الضحية التي تلوم الآخر الغربي وتحمله المسؤولية، ويتساءل الغربيون: لماذا لا يريد المسلمون تحمل نصيبهم من المسؤولية في تردي أوضاعهم وتجاه ابنائهم الذين يعتنقون فكر التطرف؟! لماذا يسمحون لمنابرهم الدينية بالدعاء علي الآخرين وتحريض شبابهم؟ لماذا يكتفون بالمواجهة الأمنية ولا يبذلون جهداً كافياً لمواجهة الفكر المتطرف ثقافياً وفكرياً ودينياً؟! لماذا لا يعيدون النظر في المناهج الآحادية وفي خطابهم الديني والثقافي والإعلامي؟! تردد معظم النخب السياسية والفكرية والدينية المبررات السياسية للظاهرة الإرهابية مثل: السياسات المنحازة، والكيل بمكيالين، وقضية فلسطين والعراق وتتجاهل الجذور الفكرية والبيئة الحاضنة للفكر المتطرف فإذا كان الغرب مسؤولا عن جانب من الظاهرة الإرهابية فإن المسلمين مسؤولون أيضاً.

أوروبا قلقة من تقرير رسم آفاقاً قاتمة لمستقبل القارة عام 2025 صورتها جزيرة صغيرة من كبار السن، عرضة لتبعات الطفرة الشبابية والفقر في المناطق المجاورة وعينها علي الجاليات الاسلامية وتزايد الهجرة إليها. وقد تفاقم القلق الأوروبي من المسلمين إثر ردود الفعل العنيفة علي أزمة الرسوم المسيئة واقتباس البابا السييء، وبلغ التوجس الأوروبي ان ألغت أوبرا برلين مسرحية قد تثير غضب المسلمين واتخذ المقر الأوروبي للأمم المتحدة اجراءات أمنية مشددة بعد تهديدات تستهدف المبني في جنيف.. وفي برلين عقد مؤتمر اسلامي، حذرت فيه ميركل من الاستسلام للخوف من المتشددين.

المشكلة الآن، انه في مثل هذا المناخ المتوجس فإن المستفيد الحقيقي هو التيار اليميني المتطرف في الغرب وكذلك الموجة الأصولية المتطرفة عندنا وأن الضحية الحقيقية هو الحوار العقلاني الصحي الناضج الذي يساعد علي إبراز صورة الإسلام الحقيقي والصحيحة.