بلال خبيز


نجح الرئيس نبيه بري في وضع نفسه في موقع التوسط بين الفئات اللبنانية المختلفة. هذا الموقع الذي بدا طوال زمن ما بعد الهيمنة السورية على مقاليد الحياة السياسية في لبنان شاغراً. وكانت الإدارة السورية تشغل ما ينوب مناب هذا الموقع البالغ الاهمية في المشهد السياسي اللبناني عبر الإلزام والضبط اللذين كانت تمارسهما على الفرقاء اللبنانيين عموماً. وكان في وسع الإدارة السورية ان تضبط وتدوزن الجرعة اللازمة من الصراعات المحلية كما تشاء بفعل قوتها العسكرية والامنية الجاثمة فوق الجميع. لكن الرئيس بري الذي ارتأى لنفسه مثل هذا الدور في غياب من يفترض به موضوعياً تمثيل هذا الدور واداؤه، لم ينجح في اكتساب وزنه السياسي الراجح في حقبة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان بفعل قوته الشعبية الكاسحة او بفعل ترؤسه لميليشيا عسكرية تستطيع ابتزاز البلد وتقطيع طرقه السياسية والامنية على حد سواء. الأمر لا يتعلق بقياس مدى شعبية الرئيس بري بين اللبنانيين، فهو زعيم يتربع فوق موالاة لبنانية وشيعية حاشدة، ولا يستطيع اي كان تجاوزها او الاستهانة بها، لكن هذه الزعامة الحاشدة لا تناسب هذا الدور. إذ يسع اي زعيم مرموق في لبنان على المستوى الشعبي ان يعطل الحياة السياسية فيه على نحو تام، لكن الدور الإيجابي الذي يهدف إلى تفعيل الحياة السياسية امر يختلف كثيراً عن القدرة على التعطيل. وإذ لا يرقى اي شك إلى قدرة الرئيس نبيه بري بوصفه زعيماً لفئة لبنانية حاشدة على تعطيل الحياة السياسية ان شاء او اراد، فإن امر تفعيلها كما يطمح وكما يسلك منذ الخروج السوري من لبنان ليس متيسراً عبر الاستنكاف والاعتراض والانتصاب شوكة في حلق اي توافق لبناني من اي جهة اتى.

المعنى ان زعيماً مثل وليد جنبلاط او ميشال عون يستطيع تعطيل الحياة السياسية في لبنان وان يفرض على البلد مراعاة مصالحه الفئوية. ففي مثل هذه الحال تحتشد الطائفة من خلف اي منهما على نحو يمنع على الدولة اللبنانية ان تخترق جدار الطائفة الصفيق. لكن الزعيم نفسه لا يستطيع ان يفرض خياراته على اللبنانيين جميعاً بسبب من احتشاد طائفته وراءه، فمثل هذا الاحتشاد يكون عادة، في بلد تحكمه الطائفية من المهد إلى اللحد، مدعاة لاحتشاد طائفي مقابل يحبط آمال الفريق الآخر ويعطل مساعيه. الزعماء اللبنانيون في الطوائف المختلفة قادرون على التعطيل حكماً. فهذا من طبيعة الأدوار التي تنيطها بهم جماهيرهم المطيفة، لكن صناعة الدور الإيجابي والتوسط بين اللبنانيين ليست متيسرة بالسهولة نفسها لأي كان منهم.

بعض المحللين يرد سلوك الرئيس نبيه بري مسلك التوسط بين اللبنانيين، وهو مسلك وعر وخطر وليس مضمون النتائج، إلى انسداد آفاق تزعم الطائفة الشيعية امامه في ظل الاحتشاد الشيعي الكاسح حول laquo;حزب اللهraquo; وطروحاته. لكن هذا التحليل لا يفسر كثيراً او قليلاً، إذ في وسع الرئيس بري او اي كان من المشتغلين في الشأن العام ان يتسلق على درج laquo;حزب اللهraquo; وان يلعب دوراً اكبر من دوره. وهذا التسلق في حد ذاته هو ما يصنع من سياسيي الدرجة الثانية في لبنان نجوماً في الفضائيات وعلى صفحات الصحف الاولى. لكن نبيه بري ليس من قماشة هؤلاء من حيث موقعه وتاريخه. فهو ان دعي لاتخاذ موقف فلأن موقفه مرجح ومسؤول، وإن دعي للعب دور فلأنه يملأ فراغ ما دعي إلى اشغاله. وهذا بالضبط ما يؤهله لأن يكون لاعباً اساسياً من اللاعبين على الساحة اللبنانية وزعيماً لا يمكن تجاوزه لا سياسياً ولا شعبياً على عكس الزعماء اللبنانيين كافة.

الأرجح ان مغامرة الدور الإيجابي الذي دعا الرئيس بري نفسه إلى إشغاله في المشهد السياسي اللبناني ليست اقل من مغامرة كبرى. والحق انه في وسع اي كان من زعماء البلد ان يميل إلى التوسط بين اللبنانيين، لكن هذا الميل قد يفقده جمهوره لدى الطائفة التي يمثل ويدعي النطق باسم مصالحها. لكن الرئيس بري، مستفيداً من عبر وتجارب اللبنانيين في الحروب الأهلية المتعاقبة، يعرف كيف يكون من اهل التوسط من دون ان يفقد جمهوره او يتنكر لمصالحه. وقد نجح في السنتين الماضيتين في جعل صمته نذير خطر محيق، ونطقه نذير بشارة يستبشر بها عموم اللبنانيين. وحين يتحدث عن عيدية تعقب شهر رمضان، فإن اللبنانيين يدركون جميعاً ان مجرد عزوفه عن الصمت الذي اعقب حال التشنج والتأزم بين الفرقاء اللبنانيين هو في حد ذاته بمثابة العيدية التي هلت قبل ان يهل هلال شوال.