د. فيصل القاسم


أطلقت الإدارة الأمريكية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر منظومة إعلامية شاملة مكتوبة ومسموعة ومرئية موجهة للعالم العربي،على أمل اختراق الشارع العربي إعلامياً. لكن مردودها الاعلامي والسياسي كان بائساً للغاية، فقد فشلت تلك المنظومة، بعد خمس سنوات، فشلاً ذريعاً في تحقيق أي اختراق، رغم الملايين الطائلة التي انفقت عليها. وها هي الإدارة الأمريكية تعيد النظر في بعض تلك الوسائل، إما بإزاحة المسؤولين عنها من مناصبهم، أو بإجراء laquo;تغييرات جذرية في ادارتها وتوجهاتها المهنية والسياسيةraquo;، والحبل على الجرار.

لماذا فشلت وسائل الإعلام الأمريكية الناطقة بالعربية في كسب قلوب وعقول العرب؟ الجواب بسيط جداً. هناك مثل شعبي يقول: laquo;اللي بيجرّب المجرّب بيكون عقله مخرّبraquo;. لكن، على مايبدو أن الأمريكيين لم يسمعوا بهذا المثل، فجربوا laquo;المجرّبraquo;، وهو أمر يبعث على الصدمة فعلاً. هل يُعقل أن يطلق الأمريكيون وسائل إعلام دعائية وتعبوية مفضوحة على الطريقة الإعلامية العربية البائدة؟ هذا ما فعلوه بالضبط. لا أدري لماذا لم يـُلقوا نظرة بسيطة على ورطة الإعلام العربي الرسمي، قبل أن يقلدوه بطريقة أو بأخرى. فالمحطة التلفزيونية التي أطلقوا لها العنان كي تجتذب الشارع العربي ليست بأفضل من القنوات الحكومية العربية السيئة، التي لا يشاهدها سوى المخرجين والمذيعين والمحررين الذين يعملون فيها laquo;بحكم عملهم طبعاًraquo;.

لقد بدأ التلفزيون الأمريكي الموجه للعرب منذ اللحظة الأولى غوبلزياً بامتياز laquo;نسبة إلى غوبلز وزير إعلام هتلرraquo;، أي أنه ذو هدف دعائي مفضوح. ولا أدري من الذي أقنع المسؤولين عن تلك القناة بأن يبدأوا بثها بمقابلة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش! ألا يعلمون أنهم دقوا المسمار الأخير في نعش قناتهم بمجرد الاستفتاح بالرئيس الأمريكي، أولاً لأن ذلك أعطاها طابعاً رسمياً فجاً، وثانياً لأن شعبية الرئيس بوش في الشارع العربي لا يحسده عليها حتى إبليس اللعين؟ متى تفهمون أن الإنسان العربي سئم أساليب التعبئة الإعلامية العربية التقليدية، ولا يريد لأمريكا أن تبدأ من حيث انتهى الإعلام العربي الرديء الذي فشل على مدى السنين في مخاطبة الإنسان العربي، ناهيك عن التأثير فيه؟ أرجو ألا تظنوا بأن العرب لا يعرفون غاياتكم الإعلامية.

لقد سُئل أحد كبار السياسيين الغربيين قبل أكثر من خمسين عاماً عن الغرض من إطلاق وسائل إعلام غربية موجهة إلى العالم العربي، فقال بالحرف الواحد: laquo;to be counter- revolutionary، أي كي تحبط ظهور أي ثورات داخلية ضد الأنظمة العربية القائمة. بعبارة أخرى فإن وسائل الإعلام الغربية التي استهدفت منطقتنا منذ الثلث الأول من القرن الماضي وحتى الآن كان هدفها الأول الحفاظ على الأنظمة وتجميلها وتكريس الأوضاع العربية المتردية، أي تلك التي تمخضت عن الرسم الاستعماري للوطن العربي، وخاصة اتفاقية سايكس بيكو السيئة، وذلك عن طريق ترويض الشعب العربي بالأساليب الخطيرة التي ابتكرها الإعلام الغربي للتحكم بالأمم والمجتمعات. ومخطئ تماماً من يظن أن أجهزة الإعلام الغربية كانت تسعى لإزعاج الحكومات العربية وزعزعتها، بالرغم من محاولتها إيهام الشعوب بأنها محايدة ومزعجة للحكام. لقد كانت تلك الأجهزة وما زالت أكبر داعم لأنظمتنا حتى الآن. ولعل أنصع دليل على ذلك أن الإذاعات وحتى التلفزيونات الغربية الموجهة إلى العرب فقدت شعبيتها إلى حد كبير منذ ظهور وسائل إعلام عربية جريئة سحبت البساط تماماً من تحت أقدام أعرق وأشهر وسائل الإعلام الغربية.

إن المراقب لبرامج بعض القنوات الأمريكية التي تبث بالعربية يرى أن انتقاداتها لبعض الأنظمة العربية لا تتجاوز القضايا السياسية العامة، كأن تشن هجوماً على بلد عربي يتعنت في التطبيع مع إسرائيل، ويمانع في تحقيق السلام المطروح أمريكياً. أما عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجوهرية التي تهم المواطن العربي فهي laquo;تفاح محرّمraquo; بالنسبة للفضائيات الغربية. لا أدري لماذا ما زالت بعض وسائل الإعلام الغربية تستغبينا وتتشاطر علينا ببعض الألاعيب المفضوحة والدعايات الفجة لسياساتها الخاصة بالعالم العربي من خلال هذه الفضائية الرديئة أو تلك.

لو كانت بعض القنوات الأمريكية الجديدة فعلاً تريد التقرب من المشاهد العربي وتكسبه إلى جانبها لفتحت الملفات الحيوية التي تهمه. لكنها لم تفعل قطّ، فلم نر مثلاً أي برنامج قوي ومؤثراً عن الفساد المستشري في أوساط الأنظمة العربية الحاكمة، أو عن الاستبداد المقيت الذي يخنق الفرد العربي من الماء إلى الماء. إن الإنسان المسحوق في هذا الوطن العربي البائس لا يريد أن يرقص ويهتز خلاعة على أنغام أغاني مايكل جاكسون وبريتني سبيرز، ولا يريد أن يُضحك عليه ببعض الأخبار السريعة المقتضبة المحبوكة على طريقة غوبلز صاحب مقولة: laquo;اكذبوا ثم اكذبوا لعل شيئاً يعلق في أذهان الجماهيرraquo;. إنه يريد معالجة جادة وجريئة لأمراضه المزمنة، كغياب الديموقراطية، والحكم الرشيد، والاستئثار بالسلطة، والتنفس السياسي، والتوزيع العادل للثروة، والتقدم العلمي، والتخلص من التخلف الاجتماعي. لكن هذه الأمراض هي آخر ما يهم القنوات الأمريكية التي تخاطبنا هذه الأيام من هذه العاصمة أو تلك. وكأنها تريد أن تقول لنا: laquo;إنني جئت لأكرس هذه الأمراض وأغطي عليها وأداري على أصحابها لا أن أفقأها كما تـُفقأ الدماملraquo;.

أما إذا قلتم لنا إن بعض وسائل الإعلام الأمريكية الناطقة بالعربية تتناول أحياناً بعض التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية حول الانتهاكات في هذا البلد العربي أو ذاك، فصدقوني إن ذلك أمر موسمي، والهدف منه ليس رفع الظلم الواقع على الإنسان العربي بأي حال من الأحوال، بل لابتزاز بعض الأنظمة التي تتلكأ أحياناً في السير في الركب الأمريكي.
لوكانت وسائل الإعلام الأمريكية الموجهة إلى العالم العربي صادقة فعلاً في إصلاحنا وتطويرنا والنهوض بنا مما نعانيه من تخلف وتأخر وديكتاتورية، لفعلت ما كانت تفعله أجهزة الإعلام الغربية التي كانت موجهة للاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية سابقاً حيث لعبت وسيلة إعلامية كإذاعة laquo;أوروبا الحرةraquo; دوراً تحريضياً هائلاً في التحولات الديمقراطية التي شهدتها الكتلة الشرقية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. وقد كانت المواد التي تبثها للأوروبيين الشرقيين مختلفة تماماً عن المواد التي كانت تبثها وسائل الإعلام الغربية الموجهة إلى العالم العربي. فبينما كانت الأولى تدعو إلى التغيير والديموقراطية والتحرر من ربقة النير الشيوعي laquo;ولو لغايات غربيةraquo;، كانت الثانية تقوم بعملية تخدير مفضوحة للشعوب العربية، بحيث لا تحرك ساكناً ضد الأنظمة والأوضاع العربية المهترئة، مما يؤكد مقولة السياسي الغربي الذي جئت على ذكره آنفاً.

ومما زاد الطين بلة بالنسبة للإعلام الأمريكي الناطق بالعربية أن الأمريكيين سلموا مقاليده لإعلاميين عرب لم يجلبوا لأسيادهم إلا مزيداً من الكراهية والرفض العربي للسياسات والاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة. فالعديد من الكتاب والصحفيين والمثقفين العرب الذين يذودون عن أمريكا أناس مكروهون جداً لدى المستهلك العربي بشكل عام . ولا يذكرهم المتلقي العربي عادة إلا بالسوء والسباب والشتائم من العيار الثقيل. وحدث ولا حرج عن مدى تأثيرهم بالمشاهدين والمستمعين، فهم لا يثيرون في نفوسهم سوى الاشمئزاز، وربما القرف، كي لا نقول أشياء أخرى مخالفة للغة النشر. باختصار لا يمكن أبداً أن تلمع صورة متسخة بمنديل ملوث.

أيها الأمريكيون: إذا استطعتم إخضاع العرب عسكرياً وسياسياً، فإنه من المستحيل عليكم إخضاعهم إعلامياً خصوصا عن طريق ثلة انكشارية من الصحفيين والإعلاميين العرب الذين يغمسون أقلامهم بالزيت ويكتبون بإيقاع وسرعة البنزين ويعدون نصوصاً وبرامج كبقايا الناريت الصالحة لقازانات الحمامات القديمة، و يمطروننا بوابل من المواد المكرسة لاحتقار القيم والثوابت العربية والإسلامية. أتظنون ـ أيها الأمريكيون ـ أنكم ستدخلون قلوب العرب بمثل هؤلاء laquo;الإعلامانجيينraquo;؟ أتعتقدون أنكم ستخوضون حوار حضارات بواسطة خطاب تفوح منه روائح المازوت؟ هل بواسطة هؤلاء الكارهين للعرب تريدون فتح حوار حضارات مع العرب والمسلمين؟ أطرح السؤال ولا أجد إلا جواباً واحداً، وهو أن إسرائيل وحدها ولوبياتها تعودت على اختيار كارهي العرب لمخاطبتهم. فما بالكم تسلكون دروب إسرائيل حتى في اختيار إعلاميين عرب للنطق باسمكم؟

أتراهنون حقا على إعلاميين عرب وصلوا إلى حيث هم لأنهم يجيدون التهريج ورواية النكات لأولياء الأمور؟ هل تعتقدون أن العرب أغبياء إلى حد منح ثقتهم لكم من خلال غلمان الصحافة وحجـّاب الحرية عن الرأي العام وظلال أسوأ الحكام وسماسرة أسوأ أجهزة المخابرات ومبيضي المتسلطين والمستبدين ومهرجي الدواويين والديوانيات؟

إن محاولاتكم الإعلامية اختراق الشارع العربي أشبه بـ laquo;Mission Impossibleraquo;، أي مهمة مستحيلة، بسبب سياساتكم الاستعمارية القبيحة. من الصعب جداً أن ينجح إعلامكم الناطق بالعربية في تجميل صورتكم التي تشوهها ممارساتكم على أرض الواقع. فكيف إذا غلفتموها باستراتيجية إعلامية غوبلزية وأوكلتم مهمة تنفيذها إلى ثلة من laquo;المارينزraquo; العرب؟.