الخميس: 2006.11.09

جمال خاشقجي

أكتب مقالي هذا بُعيد الحملة الانتخابية الأميركية، وهي انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ولكنك بالكاد تشعر بأن ثمة انتخابات تجري في الولايات المتحدة إذا ما كنت بعيداً عن التلفاز والصحف، فالحملة جرت فعلاً على وسائل الإعلام، والمهرجانات الانتخابية ترتب مواعيدها وأنشطتها لتكون مناسبة للتصوير التلفزيوني، ويبدو أن هذه سمة الانتخابات في البلاد الغربية التي ابتدعت وطورت هذا الأسلوب في الحكم منذ أن وضع نواته الإغريق القدامى قبل ألفي عام، فنفس الصورة رأيتها في بريطانيا التي أقمت فيها لعامين، حتى لافتات الطرق لا تزيد على لافتات صغيرة تغرس على جنبات الطرق، وتحمل فقط اسم المرشح والمنصب الذي ينافس عليه، من دون أي شعارات ووعود، فالتفاصيل يعرضها المرشح في التجمعات الانتخابية ومنها إلى وسائل الإعلام.
ويبدو أن الدول التي انتقلت إليها عدوى الديمقراطية والانتخابات من الغرب، أو تلك التي لا تزال تتعلمها، تفضل وسائل صاخبة أكثر، ففي الدول الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية، يتجول الناخب في سيارة نقل مكشوفة كأنها عربة لبيع quot;الأيس كريمquot;، مرتدياً وشاحاً وحوله فريقه الانتخابي فيستعرض مهاراته الخطابية في الشارع، بينما يسارع الموظفون الخطى نحو أعمالهم، وهي طريقة أعتقد أنها مزعجة، ولكن يبدو أنها لإقناع الناخبين بجدية المرشح وإصراره. أما في الكويت، فلقد اشتهرت الحملات الانتخابية بالسرادقات التي تشبه حفلات العرس، وإنْ استعيض عن المطرب بمحاضرات جادة يلقيها المرشح أو أحد أساتذة الجامعة أو المشايخ تبعاً لتوجه المرشح السياسي، وهو منهج استعاره بعض المرشحين في المملكة في تجربتنا الأولى العام الماضي. أما في مصر فلافتات القماش هي سيدة الموقف، والتي علقت عليها المرحومة سعاد حسني في فيلمها الأشهر quot;الكرنكquot; قائلة quot;لو وزعنا آلاف الأمتار هذه على الفقراء الذين نزعم أننا نمثلهم لكستهمquot; وانتهت سجينة تعذب وتهان في أحد المعتقلات، وذلك في الفيلم الشهير الذي كان بداية لعودة الوعي لفترة قصيرة لدى المثقفين المصريين، ثم عادوا وغاب وعيهم فلا زالوا يحتفلون بذكرى الزعيم في كل مسلسل يفرضونه علينا في المواسم الرمضانية.
الانتخابات وأساليبها وسياستها وتشريعاتها وسبل تمويلها، في الولايات المتحدة، علم يستحق الاهتمام والدراسة منا نحن العرب الذين لا نزال نتدرج في مدرسة الديمقراطية. ولكن لا يزال تعاملنا معها ينحصر في تحليل نتائجها المؤثرة على القضايا العربية، أو تعاملاً سلبياً في إبراز عوراتها ونواقصها، وكأننا من أهل السويد، بلغنا مبلغا من quot;الحكم الراشدquot; يؤهلنا الحكم على الآخرين ونصحهم وتوجيههم، ففصيل من المثقفين والكتاب العرب يعتقدون أن المسؤولين في بلادهم يرضيهم تأليف الكتب، وتسطير المقالات التي تؤكد quot;زيف الديمقراطية في الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاًquot;. وبينما يعتمد الليبراليون منهم فيما يكتبونه على نقد مفكري الغرب لديمقراطيتهم، يدور الإسلاميون منهم حول نظرية quot;حتمية الحل الإسلاميquot; القديمة وكيف أن الغرب الرأسمالي اكتسح كل نظرية تعارضه، وكل حضارة وقفت في وجهه، وظل الإسلام وحضارته ونظريته عقبة كأداء. ومشكلتهم في الولايات المتحدة إصرارهم على حتمية الصدام بين الإسلام والغرب، وينسحب ذلك على الديمقراطية وسبل الحكم الحديث الذي يستطيع المسلم الواعي استخدامه للرقي، دون أن يصطدم به ولا أن يذوب فيه.
ويحرك هؤلاء وأولئك اعتقاد بأن الديمقراطية وأدواتها سلاح يكاد ينقض على الحكام العرب، فتطوعوا من أجل حمايتهم، وإظهار الولاء لهم. وأحسب أن الحكام العرب لا يحتاجون لذلك كله، خاصة منهم أولئك المتصالحون مع شعوبهم، فلم نسمع منهم وعلى الأقل منذ أن هبت على عالمنا العربي نسمات الإصلاح رفضاً للديمقراطية كوسيلة حكم يمارسها الغرب ومعه كثير من الدول المتطورة. والحق أن في رفضها المطلق عبثاً، وتضييع فرص، فيكتفي أن يستعرض أحد قائمة الدول الأغنى حول العالم ليجد أن بينها وبين الديمقراطية علاقة طردية، والعكس صحيح، دون أن يلغي ذلك حقيقة ارتفاع الدخل في دول الخليج والمملكة وسببه ليس دوماً النفط، وإنما حالة الانفتاح والمشاركة في القرار حتى من دون المؤسسات الديمقراطية الكلاسيكية بين الحاكم ورجل الأعمال والصناعة والمثقف والعالم وشيخ القبيلة والتي لا تقتصر على المصلحة المباشرة في التعامل بين الاثنين، وإنما تشمل حتى مصالح الدولة كلها التي تكون موضع نقاش وتبادل رأي بينهما.
قلَّ أن تجد تصريحاً أو موقفاً صريحاً لحاكم عربي يرفض الديمقراطية وأدواتها كحتمية تاريخية تسير إليها الدول بفعل قوة التاريخ وانتشار العلم والوعي السياسي، ويحضرني هنا تصريح شهير لسمو وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، عندما سأله صحفي إبان الغزو الأميركي للعراق، وفي عز حماس quot;المحافظين الجددquot; لنشر أو فرض الديمقراطية في المنطقة، قبل أن ينهار مشروعهم ومعه للأسف مشروع الإصلاح في العراق لعيب فيهم وفي خططهم وليس في الديمقراطية. وكان السؤال عما إذا كان ذلك يقلق السعودية، فرد سمو الأمير بكل ثقة quot;نفضل في المملكة ألف مرة أن نقصف بأفكار جفرسونية على أن نقصف بصواريخ سكود من العراقquot;. والأفكار quot;الجفرسونيةquot; منسوبة هنا إلى توماس جيفرسون أحد آباء الديمقراطية في أميركا والغرب كله. كما أن أكثر من مسؤول سعودي أشار إلى أن الإصلاح في المملكة هو quot;عملية تطور مستمرةquot;، سقفها هو تطبيق مبدأ quot;الحكم الراشدquot;، الذي يكون بالتوسع في الشورى، والمشاركة الشعبية والمحاسبة واستقلال السلطات، من دون الإصرار على التسميات أو استعارة تطبيق حرفي من الغير، وإنما عملية تطور تتوافق مع تطور المجتمع.
ليت هؤلاء الكتاب أمضوا الأسابيع الأخيرة هنا في الولايات المتحدة لمراقبة الانتخابات النصفية التي جرت أول من أمس الثلاثاء، لينقلوا صورتها الحقيقية لجمهورهم العربي المتعطِّش إلى الإصلاح، بما فيها من إيجابيات وسلبيات، فالديمقراطية هنا هي الأخرى quot;عملية تطور مستمرةquot; وتتعرض لنقد وتحليل من الأكاديميين والمفكرين، فيضغطون على الناخبين كي يفرضوا مصالحهم على المرشحين، فسلطة الرئيس في إعلان الحرب ووجود ثغرات في النظام سمحت له بذلك ستكون موضوعاً للتعديل، وفرض قيود أكثر عليه إذا تأكد نجاح quot;الديمقراطيينquot; في السيطرة على الكونجرس بمجلسيه، وقد فتح هذا الموضوع عليهم كارثة حرب العراق، التي يعيش معاناتها كل أميركي بما تستنزفه من أرواح
ومليارات الدولارات، كما قويت الشركات الكبرى التي باتت صاحبة الكلمة الأخيرة نتيجة النظام الحالي الذي يسمح لها فعلياً بشراء الديمقراطية الأميركية بـ2.6 مليار دولار هي قيمة المنح لحملات المرشحين الانتخابية لهذا العام، وهو رقم يزداد باستمرار، وهذا موضوع آخر رهن للنقاش حولها هي وجماعات الضغط العاتية.
ولكن هذه العيوب الخطيرة التي تستحق منا الدراسة لتلافيها عندما تنتقل إلينا هذه العدوى، لا تلغي أن القضايا الأهم هي قضايا المواطن، وهي نفس القضايا التي تهم أي مواطن عربياً كان أم تايلاندياً ، مثل التعليم والضرائب والرعاية الصحية والإنفاق على البحث العلمي والحد الأدنى للأجور والوظائف، ويكفي أن في الأخيرة نموذجاً للرقي الذي بلغته مطالب المواطن الأميركي، فلم تعد القضية الأهم هي الحصول على وظيفة فحسب، بل إن النقاش تحول إلى نوع الوظيفة التي تكفل للأميركي الحياة في بحبوحة وسعادة، فهو لم يعد يكفيه أن يمتلك (تليفزيون بلازما)، ولكنه يريد سينما منزلية بشاشة 60 بوصة. إنني متأكد أن كل عربي يريد ذلك أيضاً.