عبد الباري عطوان



تسود حالة من الذعر جميع الاوساط المتورطة في الملف العراقي نتيجة تبلور قناعة اساسية تؤكد ان التدخل العسكري الامريكي اقترب من نهايته، وان استراتيجية الهروب باتت الاكثر احتمالا، وفي اسرع وقت ممكن، سواء اعترافا بالهزيمة، او استعدادا لشن حرب ضد ايران.

الرئيس الامريكي جورج بوش امتدح علنا السيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق، وشدد علي انه حليف واشنطن الموثوق اثناء المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقداه سويا بعد انتهاء لقاء القمة بينهما في العاصمة الاردنية عمان، ولكن الحقيقة مغايرة لذلك تماما، فربما يكون هذا هو اللقاء الاخير بين الرجلين، فايام السيد المالكي باتت معدودة، ورحيله من منصبه بات مسألة وقت فقط.
حكومة السيد المالكي التي جاءت ولادتها متعسرة، وبعد تدخلات امريكية وبريطانية مكثفة، فشلت في الاشهر الستة هي مجموع عمرها في تحقيق اي من الاهداف التي تعهدت بتحقيقها، ابتداء من المصالحة الوطنية، ومرورا بانجاز الاستقرار والامن، وانتهاء بحل الميليشيات الطائفية، والاخطر من ذلك ستظل تذكر بان الحرب الاهلية الطائفية اشتعلت في عهدها وبلغ عدد ضحايا فرق الموت وعمليات التطهير العرقي التي مارستها الميليشيات المدعومة من القوي والاحزاب المشاركة فيها، ارقاما قياسية وصلت الي اكثر من اربعة آلاف قتيل شهريا.

ويمكن ايجاز ارهاصات حالة الذعر السائدة حاليا في ثلاث نقاط اساسية:

اولا: دعوة الرئيس الامريكي بوش المفاجئة لكل من السيدين عبد العزيز الحكيم رئيس التكتل الشيعي الحاكم وطارق الهاشمي رئيس الحزب الاسلامي، ونائب رئيس جمهورية العراق الجديد الي واشنطن في محاولة اخيرة، لانقاذ المشروع الامريكي من الانهيار، ومنع الحرب الاهلية الطائفية الحالية.

ثانيا: بدء القوي الاقليمية المحيطة بالعراق الاستعداد لمرحلة ما بعد الانسحاب الامريكي، وايجاد موضع قدم كل علي طريقته، فسورية اعادت علاقاتها الدبلوماسية مع العراق بعد 22 عاما من قطعها، والسعودية تتحدث علنا عن التدخل بطريقة غير مسبوقة لحماية الطائفة السنية وتسليحها وتمويلها، ودعم المقاومة البعثية، بل وانشاء ميليشيا سنية لمواجهة الميليشيات الشيعية، اما تركيا القلقة من انفصال اقليم كردستان العراق فور الانسحاب، فبدأت تنسق مع التكتل السني الجديد الذي تعمل واشنطن علي اقامته ويضم الاردن والسعودية ومصر ودول الخليج الصغيرة، واتضح ذلك في زيارة السيد رجب اردوغان رئيس الوزراء التركي المفاجئة للعاصمة الاردنية قبل اسبوع.

ثالثا: تحذير العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني من حروب اهلية طائفية في ثلاث دول هي العراق ولبنان وفلسطين اذا لم يتم التعامل بجدية من قبل الولايات المتحدة مع الوضع المتفجر في المنطقة. الحرب الاهلية في العراق انفجرت، وهي علي وشك الانفجار في لبنان بعد قرار المعارضة النزول الي الشارع من اجل اسقاط الحكومة المدعومة امريكيا، اما في فلسطين فهي مؤجلة لبضعة اسابيع او اشهر، ريثما يقرر السيد محمود عباس رئيس السلطة خطوته المقبلة، بعد اعترافه بفشل محادثاته مع حركة المقاومة الاسلامية حماس لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتزايد التكهنات حول عزمه حل حكومة حماس واستبدالها بحكومة طواريء.

طرفان يعيشان حاليا اسعد ايامهما بحدوث هذه التطورات، الاول هو المقاومة العراقية الوطنية بكافة اطيافها من بعثيين واسلاميين عراقيين، والثاني هو تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، فقد نجحا وبعد اربعة اعوام تقريبا في افشال مشروع الاحتلال الامريكي وفضح الوجه الطائفي للجماعات والاحزاب المتعاونة معه.

ولان الرئيس الامريكي تحدث في مؤتمره الصحافي عن تصاعد خطر تنظيم القاعدة واتهامه مباشرة بتصعيد الحرب في العراق، فانه يمكن القول بان التنظيم هزم الادارة الامريكية بدلا من ان تهزمه، واثبت انه يملك رؤية اعمق، وتقديرات ادق علي عكس هذه الادارة رغم انها تتحكم بالقوة الاعظم في العالم وتملك جيشا من الخبراء والمستشارين واجهزة الاستخبارات العصرية، الي جانب تعاون معظم الانظمة الاسلامية معـــها، ويمكن اختصار ذلك في نقطتين:

اولا: خطط تنظيم القاعدة لجر الولايات المتحدة الي حرب في الشرق الاوسط، من خلال استفزاز الادارة الامريكية بتفجيرات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) حتي يستطيع ان يحاربها علي ارض اسلامية. وقد كشف لي الشيخ اسامة بن لادن عن هذا الهدف عندما التقيته في كهوف تورا بورا الافغانية في نهاية عام 1996، وقال لي بالحرف الواحد نحن كجهاديين لا نستطيع هزيمة امريكا علي ارضها، ولكننا نستطيع ان نهزمها في حال واحدة، وهي ان نجرها الي حرب علي أرضنا وهذا ما يحدث حاليا في العراق وافغانستان.

ثانيا: خطط تنظيم القاعدة لاشعال نار الحرب الاهلية الطائفية في العراق، وساعدته الميليشيات الشيعية باقتدار لتحقيق هدفين: الاول زعزعة استقرار الاحتلال ومنع حكم القوي المتحالفة معه، والثاني جر الدول العربية والاسلامية الي الحرب لانقاذ الطائفة السنية من عمليات القتل والتهجير القسري، واشعال حرب اقليمية طائفية موسعة تشمل المنطقة باسرها وملامح هذه الحرب تتبلور حاليا في الهلالين الشيعي (ايران وسورية) وحلفائهما (حزب الله وحماس) والتكتل السني الجديد الذي يضم دول الخليج الست علاوة علي مصر والاردن، وهو التكتل الذي اجتمعت قابلته الشرعية السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية بوزراء خارجيته يوم امس في الاردن وللمرة الثانية في اقل من شهرين.

فمن كان يتصور ان السعودية التي لعبت دورا كبيرا في حربي العراق لاضعاف حزب البعث (الاولي) وازاحته من السلطة (الثانية) تدرس حاليا التعاون معه ومع ضباطه وامدادهم بالاسلحة والمال، ومن كان يتخيل انها ستتبع استراتيجية القاعدة نفسها عدوها اللدود في الانحياز للطائفة السنية في العراق دفاعا عنها في مواجهة الميليشيات الشيعية وتصديا للنفوذ الايراني، ولكن متأخرة اربع سنوات!

وسط كل هذه التطورات، تعكف الادارة الامريكية علي بحث خياراتها لإيجاد خريطة طريق جديدة في العراق والمنطقة، لإنقاذ مشاريعها المنهارة، وتقليص خسائرها، وتخفيف وطأة الهزيمة.
خريطة الطريق الامريكية الجديدة، ووفق ملامحها الدولية، لن تحقق أيا من هذه الطموحات بل قد تؤدي الي كوارث جديدة، فالرئيس بوش سيستقبل يوم الاثنين القيادات الخطأ (الحكيم والهاشمي) فهؤلاء هم اساس المشكلة، ولن يكونا طريق الحل في العراق. فالأول اضاع فرصة تاريخية نادرة لطائفته لكي تحكم بلدا علي اساس التسامح والمساواة والترفع عن الثارات والاحقاد، والثاني دخل عملية سياسية منبثقة من رحم الاحتلال كشاهد زور، واعترف نفسه، وهو نائب رئيس الجمهورية، بأنه لم يكن ابدا من دائرة صنع القرار.