الجمعة: 2006.03.017

يوسـف إبراهيــم

كما لو أن الأرض انشقت عنها فجأة ودون أدنى مقدمات, ظهرت الدكتورة وفاء سلطان, مشعلة النار، عبر اللقاء التلفزيوني الذي أجري معها, على المتطرفين والمتشددين الإسلاميين, قاذفة إياهم بما أثار مكامن الغضب في كافة قوى الظلام التي تعيش بين ظهرانينا. وكان لهذه الطبيبة الأميركية، السورية الأصل، والمختصة بالأمراض النفسية والعقلية, من الجرأة ما يكفي للجهر بصوتها عبر قناة quot;الجزيرةquot;, وكي تتحدى كافة الموالين لتيار الإسلام الأصولي المتشدد, من خلال مشاركتها في ذلك الحوار التلفزيوني الذي جمع بينها ومتحدثين آخرين, أحدهما مصري والآخر جزائري, كلاهما متطرف ومتشدد, تعود رؤاه وجذوره الفكرية عن الإسلام إلى القرون الوسطى. ومنذ ذلك اللقاء وإلى اليوم, تحولت الدكتورة إلى نجمة في عيون الكثيرين, بينما احتلت موقعاً يقربها كثيراً من مملكة الشر, في عيون الأصوليين والمتشددين. فما الذي قالته على وجه التحديد, مما أثار غضب وحنق دعاة الكراهية, إلى كل هذا الحد؟
لقد استطاعت الدكتورة وفاء أن تأسر مستمعيها وتسمر عيونهم وعقولهم على الشاشة بطلاقتها وفصاحتها العربية. ولم يكن غريباً البتة أن يترك ذلك الحوار القصير الأحادي الجانب الذي سيطرت عليه المتحدثة تماماً, كل ذلك الأثر المجدد والباعث للحياة في أوساط المستنيرين والعلمانيين. ولا سبيل لشرح هذا الأثر وتوضيحه أفضل من تصور حالة القمع التي يخضع لها العلمانيون العرب داخل أوطانهم, وكم كان شعورهم عظيماً عند رؤيتهم لواحدة من أقرانهم وأنصارهم وهي تجهر بصوتهم جميعاً, بكل ذلك الاطمئنان وكل تلك الجرأة التي منحتها إياها ديمقراطية بلاد المهجر الأميركي الذي تعيش فيه حالياً. وقبل ذلك كله, فإن في كون المتحدث امرأة, ما يكفي بحد ذاته لاستفزاز ثائرة الظلاميين والأصوليين بيننا, الذين يصور لهم فهمهم الظلامي المتعسف للإسلام, أن مكانة المرأة في المجتمع يجب ألا تكون أفضل حالاً من مكانة الماشية والدواب, وأن عليها أن تعامل بهذه الصفة, وليس على أساس إنسانيتها بأي حال! ومما زاد حقد هؤلاء وغضبهم عليها, أنها تعيش بعيداً عن متناول أيديهم الحاقدة, في لوس أنجلوس, التي تبعد آلاف الأميال عن مملكة الظلام. ولولا ذلك, لكانوا قد أثاروا الرعب في قلبها حتماً وهددوها بالحرق والقتل, مثلما يفعلون مع كل من يعارض نهجهم وسلوكهم الأصولي المتطرف.
وها هم وجدوا أنفسهم قبالة امرأة مثقفة عالمة وطبيبة نفسانية, يؤهلها ذكاؤها وكفاءتها الذهنية لمواجهة أي كان. كما أنها تحدثت بقدر من الفصاحة والحصافة, مما لا يرقى إلى فهمه كثير من الأصوليين من ذوي العقول المتحجرة المتكلسة.
ومن أهم ما قالته الدكتورة وفاء إن الإسلام في أمس الحاجة إلى الإصلاح والاقتراب من التنويرية العلمانية, حتى يتمكن المسلمون من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية. وما يفهم من هذا القول, حكمه الصريح والمباشر على حالة التقهقر والتخلف التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي اليوم. وكان من رأيها أن الإسلام يكابد الآن في سبيل اللحاق بركب الحداثة وقيم حقوق الإنسان وتقدم العلوم والآداب وإحراز التقدم الفكري والعلمي, على النحو الذي تعرف به كل هذه الظواهر الحداثية في الحضارة الإنسانية العالمية. ومضت إلى القول إن هذا هو السبب الذي يدفع ببعض أتباع الإسلام لاتخاذ مواقف دفاعية متطرفة, تدعو للتمسك بالتقليدي والقديم, في مواجهة الحداثة الجارية في مشارق الأرض ومغاربها, بما فيها الصين واليابان والهند شرقاً, وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية غرباً.
ومن يريد منا التحقق من صدق ما قالته الدكتورة المتحدثة, فما عليه إلا أن يجيل النظر حواليه في العالمين العربي والإسلامي, ليرى كم عدد الكتب والأفلام وأشرطة الفيديو والأفكار التي تحجب أو تحرق أو يتم طمرها وسط كم هائل من النفايات التي تضخ يومياً. وهناك في هذه الدول, يتم إغلاق المزيد والمزيد من العقول يومياً, بينما تتراجع الحقوق وتهضم, على خلفية الرعب الذي تشيعه وتبثه جماعات الإرهاب الإسلاموي الأصولي المتطرف.
وفي الوقت ذاته فقد تحولت الجامعات التي يفترض فيها أن تكون منارات ومشاعل للعلم والاستنارة والمعرفة, إلى معاقل للجهل وضيق الآفاق. وكما قالت الدكتورة وفاء, فإن في الدفاع عن الإسلام الليبرالي المستنير, ما يرقى إلى الدفاع عن حقنا في الفكر والحياة بصفتنا بشراً, لا أن نكون أشبه بالإنسان الآلي المغسول الدماغ.
ولكي نوجز القول, فإن ما قالت به الدكتورة المتحدثة, إنما هو حقائق آثرنا نحن العلمانيين العرب الذين نعيش داخل مجتمعاتنا المحلية, نسيانها أو تجاهلها, خوفاً من دوامة الرعب والإرهاب الفكري, التي يثيرها الظلاميون من المحيط إلى الخليج. وعليه, فقد آثرنا اتخاذ موقف المتفرج على سيادة قوى الشر والتخلف وهيمنتها على مجتمعاتنا باسم حركة quot;الإخوان المسلمينquot;, وغيرها من الظلال والمسميات, بما فيها: حركة quot;حماسquot;, وquot;الجماعة الإسلاميةquot;, تنظيم quot;القاعدةquot;, وغيرها كثير من المنظمات والجمعيات والحركات المتطرفة والمتشددة. وفي الوقت ذاته وقفنا مكتوفي الأيدي, بينما تسود عالمنا أسماء وشخصيات لدعاة أصوليين شبه أميين, من أمثال أسامة بن لادن, وأيمن الظواهري, ومن سار سيرهم.
وبالنتيجة, فقد خيمت غلالة من الحزن والأسى فوق سماء عالمنا العربي الإسلامي كله. ولك أن تنظر من مصر مروراً بالأردن وفلسطين وحتى بعض دول الخليج, كي ترى كيف سيطرت الأصوات الظلامية على المساجد والمؤسسات التشريعية والتنفيذية, بل وعلى المدارس والجامعات, ومختلف الدوائر والمصالح الحكومية.
ومع أن السبيل الوحيد للخروج من هذه المتاهة, لن يتحقق إلا عبر تضافر أصوات كافة المفكرين والمعتدلين داخل الإسلام نفسه, إلا أن ذلك يتطلب التعاون مع العلمانيين من أمثال الدكتورة وفاء التي لم تتردد ولم تتلجلج في دعوتها الجريئة الصريحة لضرورة فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الإسلامية والعربية. وبفضل أمثال هذه الدكتورة ndash;من الآمنين المتحررين من أي خوف وذعر, المقيمين بالضرورة بعيداً عن مملكة الظلام- فإنه يمكن تفادي وقوع صدام حضارات بيننا والآخرين.
لكن منذ ظهورها في شهر فبراير الماضي, عبر ذلك الحوار التلفزيوني المشار إليه, انهالت على المتحدثة رسائل التهديد والوعيد بالقتل, عبر البريد الإلكتروني والهاتف والإنترنت, مما دعا الحكومة الأميركية إلى وضعها تحت حمايتها بصفتها مواطنة أميركية. وهكذا تحولت الدكتورة من مواطنة يكاد لا يعرفها أحد, إلى نجمة لامعة مضيئة في سماء الوطن العربي الأم والوطن المهجر البديل معاً. وعلى رغم سيل التهديدات التي انهالت عليها, فهي لم تركن إلى الذعر والخوف, بل تعهدت بالمضي قدماً في دعوتها لنشر العلمانية في أوساط المسلمين.