سلطان الحطاب

كان علي ان اتوجه بنفس اليوم من مطار جنيف الى بلدة مونترو على الطرف الآخر من بحيرة ليما .. لم يكن سهلا الحصول على غرفة في فندق متوسط مع بداية شهر نيسان حيث تكثر المؤتمرات التي تشتهر هذه البلدة بانعقادها فيها خاصة القادمين من العالم الثالث والذين يعتقدون ان بلدانهم لا تناسب فيتعذرون للحضور.

كنت مولعا بمعرفة التجربة السويسرية في ادارة الحكم والديمقراطية وفي التعليم لانني اعتقد ان هناك علاقة قوية ما بين الديمقراطية والتعليم كان علي ان اسأل واستمع جيدا لصديق مقيم هنا منذ عشرين سنة يعمل في سلك التعليم وقد كون تجربة متكاملة.

ما اكتشفته ان سويسرا لا مواد خام فيها ولا مصادر طبيعية سوى التعليم الذي تقدمه البلد لأبنائها وتحرص عليه ليكون بديلا في وضع سويسرا في المكان الذي تريده.

بالتعليم المتقن اقام السويسريون اقتصادا لا يعتمد على الانتاج الواسع بكميات كبيرة وانما على انتاج ذي مستوى عال وبمنتجات فردية عالية القيمة ومن هنا برزت صناعة الساعات السويسرية والشوكلاته اليدوية الصنع وغيرها من صناعات قليلة الكلفة عالية الثمن وكان من اجل هذه الاهداف ان يقوم نظام تعليمي بكفاءة عالية وهكذا شكل القطاع التعليمي السويسري قدرة الاقتصاد على المنافسة وتوجه التعليم في الاصل الى البنية الاساسية وهي المدرسة كما توجهت السياسة لتبدأ من الشعب حيث تبنى وحدات الحكم من الادارات المحلية والكونتونات التي تضع دساتيرها وانظمتها وقوانينها الخاصة بها قبل ان تنتظم في الوحدات الاكبر.

(2)

هنا تشكل المرحلة الابتدائية والثانوية الاولى المرحلة الالزامية وتستغرق تسع سنوات في حين تأخذ السنوات الثلاثة التالية من المرحلة الثانوية جميع انواع التعليم المهني. وفي الاحصائيات ان 60% من جميع الشباب يختار بعد الفترة المدرسية الالزامية تدريبا مهنيا عمليا يستغرق 4 سنوات والمعاهد في هذا المجال تقدم تعليما هو الافضل على المستوى العالمي وفي الاحصائيات ان الانفاق على البحث العلمي من الناتج الاجمالي القوي هو الاعلى في العالم حيث يتم تمويل ثلثي اعمال البحث العلمي من خلال القطاع الخاص. والانفاق على البحث العلمي الذي يقوم به الاقتصاد السويسري خارج البلاد يزيد عما هو في داخلها. وفي الوقت الذي يقوم القطاع الصناعي الخاص بالبحوث التطبيقية تقوم الجامعات هنا بالبحوث الخاصة بالاساسيات.. وهذا سبب من اسباب جعلت العالم يكرم علماء سويسريين (17) مرة بجائزة نوبل.. التي لم يحصل عليها طوال تاريخها سوى عربي واحد عن الآداب هو نجيب محفوظ..

الاقتصاد هنا يعتمد في الدرجة الاولى على الخدمات حيث يعمل فيه 72% في حين يعمل 24% في الصناعة و4% فقط في الزراعة. وعن الخدمات فان سويسرا تأخذ الاول في خدمات التأمين واعمال البنوك والتجارة والسياحة. اما في القطاع الصناعي فاننا نتقدم بصناعة الماكينات والالكترونيات والصناعة المعدنية بالاضافة الى الادوية والصناعات الصيدلانية.. أما المؤسسات التجارية والصناعية الصغيرة ذات التخصص العالي فهي العمود الفقري للاقتصاد السويسري اذ يشكل 98% منه يصدر معظمها للخارج وابرزها الساعات وادوات الضبط وادوات الزينة.

اهتمامي بالتعليم في سويسرا والسؤال عنه لا يعادله الا اهتمامي بالادارة السياسية وكيف استطاع هذا البلد الصغير وسط اوروبا المسمى بالاراضي المنخفضة والذي كان معبرا باتجاهين للدول المتحاربة التي كانت تجتاحه وهو ما املى عليه فكرة الحياد والالتزام بها وعدم الدخول الى معاهدات او اتفاقيات انحياز لأي طرف وما تربت على ذلك من حسنات وسيئات..في هذا البلد الصغير الذي يبلغ (3ر7) مليون نسمة فقط (4) حضارات و(4) قوميات اساسية لخليط قومي، ومعظم السكان من النساء اللواتي يصل معدل اعمارهن 82 عاما في حين يصل معدل الرجال 77 عاما ويعيش 30% من السويسريين منفردين شخص واحد في مسكن واحد وفي سويسرا (4) ملايين مركبة وتمتاز سويسرا ايضا باعلى معدل دخل للفرد وبأعلى كثافة في استخدام الكومبيوتر والانترنت في العالم، اما معدل الانجاب فلم تعد هناك اي زيادة منذ عام 1972 والعدد في تناقص.

سجلت الملاحظات وعدت الى غرفتي في الفندق.. المنظر الخلاب طغى على كل ما افكر فيه وما تركته من مواضيع للكتابة. فاوروبا وخاصة السويسريين هناك وكأنهم لا يسمعون بانفلونزا الطيور ابدا رغم ان البحيرة التي يقع عليها الفندق laquo;عدن بالاسraquo; هنا ممتلئة بالاوز البري وانواع اخرى من الطيور التي تنزل وتقلع وتلتقي مع طيور قادمة من بعيد.. فما زال الدجاج سيد الموائد وما زال بيض الصباح الطازج يتصدر مينو الافطار مما جعلني اعتقد ان انفلونزا الطيور ربما تكون كذبة نيسان التي اراد العالم المتقدم فيها ان يضحك على العالم الثالث لابادة طيوره واعادته الى حظيرة الدواجن المستوردة ورهن استقلاله من هذا النوع من الغذاء الذي بدأنا نكتفي منه.. ابعدت عن مخليتي نظرية المؤامرة وقلت في نفسي لقد اعفتني هذه الزيارة من الكتابة عن القمة العربية التي ازداد تعثرها ولم يستطع العرب ان يلتقطوا فيها اي فرصة لبناء تضامنهم فزادت سخرية العالم منهم وهو يقارن مؤتمراته بمؤاتمراتهم ويرى ان الحكام في بلادنا هم الذين يغضبون من شعوبهم وليس العكس فيكون هم شعوبهم ارضاءهم وليس العكس.. اليس الغرب غرب والشرق شرق وهما لا يلتقيان كما قال صديقي السوداني الساخر هنا.. والزيارة اعفتني ايضا من الكتابة في الانتخابات الاسرائيلية التي انشغل بها العالم هنا في كل فضائياته وبكل لغاته التي يطلقها في حين ما زال التعتيم قائما على حكومة حماس وعلى كثير مما يجري في العراق سوى الرهينة الاجنبية التي اطلق سراحها اخيرا. ورغم جمال سويسرا الا ان الجمال كله لم يستطع ان يذيب المرارة التي نحملها من ما آلت اليه اوضاع امتنا!