الإثنين: 2006.05.15

خالد الحروب

كنت قد كتبت قبل أسبوعين مؤيدا آراءً لحسن الترابي بشأن وضع المرأة في مجتمعات المسلمين. وتحديداً اجتهاداته بشأن اعتبار شهادة المرأة مثل شهادة الرجل, وجواز زواج المسلمة من غير المسلم, ذاك أن هذه الاجتهادات هي ما يحتاج إليه المسلم المعاصر في عالم اليوم, إن أراد أن يصالح ما بين العقل والنقل. ورغم أنني لم أكن quot;المفتيquot; الذي أطلق تلك الاجتهادات فلست في موقع الفتيا ولا أزعم ذلك, فإنني تلقيت سيلاً من الردود الغاضبة والمتشنجة التي تستحق وقفة خاصة بها. لكن قبل إيراد quot;عينةquot; ممثلة من تلك الردود, من المهم القول إن ما أثار غضب كثيرين هو الصورة التالية التي وردت في المقال, والتي ليست بافتراضية أو تخيلية, بل محتملة الحدوث جداً هي أو ما هو قريب منها, وتقول الآتي:
quot;إذا حدثت جريمة وشهدتها امرأة معروفة بذكائها وحاصلة على دكتوراه في القانون والمحاماة, وتشتغل محامية أو قاضية, ومتحدثة لبقة, وفي نفس الوقت شهد الجريمة رجل معروف بمحدودية قدراته العقلية, وعاطل عن العمل, ولا يستطيع أن يصف ما رأى، فبأي منطق فهل يمكن أن تُرفض شهادة تلك المرأة المتفوقة وتُعتبر نصف شهادة ذلك الرجل المتواضع القدرات؟ أليس من المفترض أن يكون الاجتهاد والتأويل المستنيران دور أساسي هنا؟ وإذا تقدم لخطبة فتاة مسلمة شاب نبيل الأخلاق, وكامل الأهلية, ومعروف بصدقه وحسن معشره, وأحبته ورغبت فيه, وفضلته على شاب آخر ذميم الخلق, ومعروف بكذبه وسوء معشره, وغير مؤهل لها, ولم تحبه أو ترغب به, فبأي منطق يُرفض زواج الفتاة من الشاب الأول لأنه غير مسلم, ويُقبل الثاني لأنه مسلم؟ ومرة أخرى أين هو دور الاجتهاد والتأويل في مسألة كهذه؟ إذا وجدت الفتاة نفسها أمام خيار صعب, خاصة في الغرب, بين مسلم غير نبيل وكذاب وخداع, ورجل غير مسلم لكنه نبيل وصادق وشريف, هل من الدين أو المنطق أو الحق أو العدل أو السوية النفسية دفعها لاختيار الأول على الثاني؟ سيقول قائل طبعاً إن المسلم غير المستقيم ستتحسن أحواله في قادم الأيام ولن يظل على حاله المعوج, بالإضافة إلى أن مستقبل الأطفال, وهو الأهم, سيُضمن بحيث يبقوا مسلمين وهكذا. هذه المحاججات تتعامى عن نقطة أساسية وهي رأي المرأة نفسها ورغبتها وميلها, ولا تلقي لها بالاً وكأن مسألة الزواج عملية بيع وشراء وتعاقد خالٍ من العواطف والرغبات. إضافة إلى ذلك وماذا لو لم يستقم حال ذلك المسلم سيئ الخلق؟ ومن يضمن حسن أو سوء إسلام أبناء الأزواج المسلمين أنفسهم, حتى يُشار إلى نقطة ضمان دينهم إن كان والدهم غير مسلم.
وإليكم غيض من فيض من الردود الرثة التي وردتني أو كتبت تعليقاً على المقالة: quot;لن نقبل بهذه الفتوى حتى لو صدرت عن ابن تيميةquot;, quot;من نصبك أنت والترابي للحديث باسم مسلمي العصر؟quot;, quot;يبدو أن الكاتب إن كان مسلماً فبضاعته من العلم قليلة, لا لن أرد على جميع ما يجهله فليس ذنبي جهله بالإسلامquot;, quot;زمن أغبر حين نسمح لهم بمخاطبة الجماهير ونسمع صوتهم المليء بالغباء والحقدquot;, quot;كيف نقبل بحكم شخص بدون أي معلم من معالم الإسلام, حليق اللحية والشارب, خريج جامعة علمانية تفتخر بفصل الدين عن الدولةquot;, quot;صدق الله تعالى وكذب خالد الحروبquot;, quot;من الواضح أن لك عقلية لا داعي لمتابعة هذيانهاquot;, quot;اللي مش عاجبه الإسلام ويرى تعاليمه رجعيه ومتخلفة فياريت يعلن إلحاده أو يتحول لديانة موديرن أخرى بدل من الافتراء على هذا الدين العظيم وإدخال عليه ما ليس فيه... يا رب احفظ الإسلام من أعدائه الظاهر منهم والخفيquot;, quot;ولماذا تريدون تغيير الثوابت من أجل ادعاءات فارغة؟ أنتم تريدون تغيير الدين حسب الموجة السارية في هذا العصر الكل إلى التغيير حتى الدين يريدونه حسب الموضةquot;, quot;ما تطالب به باختصار هو شحنة من الفتاوي الملتهبة من أي جهة تبيح لكل شخص كل شيء حسب احتياجاته وبالذات فتوى خاصة بك لتكتب ما تريد من غير أن تحاسب الأمر الذي حاصل فعلاquot;, quot;لماذا الدين الإسلامي أصبح هيناً على المسلم وغير المسلم للإفتاء فيه باسم الاجتهاد وروح العصر ومواكبة التقدم وغيرها من الأعذار غير المنطقيهquot;, quot;إلى الحروب أقول: إن هذا الأمر دين وليس بالمنطقquot;, quot;كلام غير منطقي والمسلمة العاقلة والصادقة هي من تتبع كتاب الله وسنة رسوله، القرآن لم يقل كذلك نحن نعرف أن القرآن ذكر المرأة تعادل نصف شهادة رجل، ونعرف السبب وفسر كلام الله المرأة كثيرة النسيان والمشاغل ونارية العاطفةquot;, quot;حكم شخص بدون أي معلمquot;, quot;لن أرد على الكاتب ولكن لا أعرف كيف يسمح بنشر آرائه!quot;, quot;من أنت حتى تحكم بصحة الفتوى أو خطئهاquot;, quot;مقال يدل على جهل مركب بالشريعة...quot;.
من بين عشرات الردود التي كانت غالبيتها الكاسحة تشتم وتسب وتلعن, وبعضها يهدد ويتوعد، لم يكن هناك رد واحد تناول التساؤل الذي حمله المقال. لم يحاول أحد من أولئك الغاضبين أن يتناول بهدوء وإقناع المسألة أو يتأمل فيها, بعقلانية وروية مقنعة. الاستثناء الوحيد جاء مع رد يقول quot;من قال لك إن المرأة إذا حصلت على دكتوراه في القانون تصبح أفضل من الرجل الغبي الذي ذكرته في مقالك؟ لمعلوماتك إنها تصبح أسوأ كلما حصلت على درجات علمية أعلى!quot;. في نفس المقال كتبت أن مشكلتنا اليوم هي أن كل من يطرح تساؤلاً من هذا النوع يتم إسكاته بنص قرآني أو نبوي, وذلك بتراً للحوار وقطعاً له. وكذا كانت نوعية الردود التي أذهلني عددها وأضحكتني ضحالتها, لكن في عمومها تدعو للرثاء وتشير إلى بؤس حالتنا الفكرية والثقافية, وغياب أدنى تسامح أو استعداد للحوار.
غياب العقل واغتياله هو القاسم المشترك بين الردود, وتضاف إليه مقادير مدهشة من عدم القدرة على استيعاب جوانب القضية المطروحة, وفصل جوهرها عن أية أبعاد شخصية. والأكثر مدعاة للدهشة والحزن هو غياب التسامح مع الرأي الآخر, وعنف الخطاب وغلبة النزعة الإقصائية التكفيرية. فما الذي يضير كل أولئك الغاضبين لو أنهم عبروا عن آرائهم بكل قوة وحماسة, لكن من دون حرمان الآخرين من إبداء رأيهم أيضاً؟ ولماذا يتمنطق الصغير والكبير, الأمي وشبه الأمي, بمنطق الفاهم الوحيد للدين, وكأنه يتحدث باسم الخالق؟ وهل يحق لنا الزعم بأننا ثقافة تسامح ونحن نصل إلى درجة قريبة من اغتيال المخالفين لنا في الرأي؟ وكيف يمكن أن يتطور الاجتهاد في الدين, وسيوف أصحاب الفكر المتعصب مشهرة في وجه كل رأي جديد؟ لو يعلم هؤلاء أنه لو قيض لطريقة تفكيرهم أن تسود خلال قرون الازدهار الحضاري الإسلامي لما دخل المسلمون التاريخ أبداً, ولما صار لحواضر كدمشق وبغداد وبخارى ومدن الأندلس أي ذكر في مسار البشرية.