الجمعة: 2006.06.16


أمجد ناصر

كنت اظن ان المظروف الضخم الذي وصلني من بيروت حاملا شعارها الشهير يضم الاصدارات الجديدة لدار رياض الريس التي ارست تقليدا محترما (لا يخلو، طبعا، من مزاجية رياض نفسه) في التعامل مع الاعلام والاعلاميين، فرغم متانة المظروف المصمم لحمل اعباء كهذه (وهي ثقيلة لو تعلمون!) الي ما وراء البحار الا ان سلطة البريد الملكي البريطاني التي ما تزال تحافظ علي شيء من تقاليدها العريقة قامت بتغليف المظروف الذي (تفزرت) جوانبه من فرط ثقل محتواه بـ (كيس) من النايلون المقوي.
لم يكن المظروف يحوي عشرة كتب كما توقعت.
ولا سبعة من الحجم المتوسط.
ولا خمسة من القطع الكبير.
ولا ثلاثة من طراز امهات الكتب.
بل كتابا واحدا!
ادهشني الحجم غير المسبوق للكتاب، وادهشني اكثر ان يكون شعرا، خصوصا، وانا اعرف تذمر رياض الريس من الشعر والشعراء الي درجة ان الكاتب والناشر المعروف الذي بدأ حياته الكتابية شاعرا يقبل ان ينشر لاصدقائه الشعراء اي كتاب، في اي حقل، سوي ان يكون شعرا!
الكتاب الضخم، بل غير المسبوق في ضخامته، يحمل عنوان (المحبرة) وهو للشاعر اللبناني جوزيف حرب الذي اشتهر كشاعر في المحكية اللبنانية بعد ان غنت له فيروز، في اول خروج لها من معطف الرحابنة، قصائد جميلة في شريطها الساحر (ذهب ايلول)، ثم اخذ شاعر المحكية اللبنانية المجدد هذا يتحول الي الشعر باللغة الفصحي التي لم يتمكن، برأيي، من ترك بصمة خاصة فيها كما فعل في العامية.
فقد بدا جوزيف حرب في اعماله الفصيحة غائبا تماما عن الاطوار التي عرفها الشعر العربي بعد (ثورة الشعر الحديث) والسجالات التي شهدها هذا الشعر في قضايا (المبني والمعني) والوزن والنثر.
لا اعرف سر غرام رياض الريس بشعر جوزيف حرب بحيث يصبح الشاعر الثاني المعتمد في داره بعد (او مع) محمود درويش!

تلك، في اي حال، مسألة ذوق.
فلعل رياض الريس وجد في شعر جوزيف حرب ما لم تجده فيه الحركة الشعرية العربية الفاعلة اليوم بشيبها وشبانها، او لعل غرامه بشعره، وهذا ما ارجحه انطلاقا من معرفتي الشخصية برياض، مجرد نكاية بهذه الحركة واعلامها.
ورياض، لمن لا يعرف، سيد الاستفزاز والنكايات.
لكن هذا استطراد خارج الموضوع محمولٌ علي الغيظ من رياض لا من جوزيف حرب وشعره، اما الموضوع فهو هذا الصهريج من الحبر المسمي تواضعا لا يليق بحجمه: (محبرة)!
(المحبرة) ليس كتابا يضم الاعمال الكاملة لجوزيف حرب بين دفتين، بل هو كتاب واحد يقع في 1703 صفحات من العيار الثقيل!
خطر في بالي عندما رحت اقلب الكتاب ان ارشحه لموسوعة (غينيس) للارقام القياسية، لكني وجدت الصديق حسين درويش قد سبقني الي ذلك في (البيان) الاماراتية.
لا اعرف ان كانت هناك كتب عربية او اجنبية تضاهي (المحبرة) في الضخامة سبقته الي احتلال رقم قياسي في عدد صفحات كتاب شعري، ولكني، شخصيا، لم ار شيئا كهذا في حياتي.
امتلك كتبا شعرية عربية واجنبية عديدة بما فيها مجلدات اعمال كاملة لشعراء، لكن اضخم هذه الكتب لا يبلغ نصف (المحبرة)، فكتب الشعر، مثل الشعر نفسه، نحيلة، متقشفة، خجولة، خفيفة الحمل والوطأة علي اليد والنفس، فما الذي دفع جوزيف حرب، وناشره، الي تجشم هذا العناء غير المبرر لا كماً ولا كيفاً؟
لا اعرف.
اعرف ان ريتسوس شاعر اليونان العظيم توفي عن نحو مئة مجموعة شعرية، واعرف ان شاعرنا الكبير سعدي يوسف، اول من ترجم ريتسوس الي العربية، يسعي الي انجاز ما انجزه شاعره اليوناني الاثير، لكن سعدي يوسف الذي يعتبر من اغزر شعراء العرب انتاجا لم يصدر حتي الآن سوي ستة وثلاثين عملا تقع في ثلاثة مجلدات كبيرة.
واعرف ان (الالياذة) و(الاوديسة) لهوميروس تقعان في نحو 1000 صفحة من القطع المتوسط، و(الكوميديا الالهية) لدانتي، حسب ترجمتها الي العربية التي حققها الشاعر العراقي كاظم جهاد وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لا تتجاوز 1034 صفحة، واعرف ان عمل اوفيد الخالد (التحولات) يقع في نحو 500 صفحة، كما ان (شاهنامة) الفردوسي بالكاد تبلغ 300 صفحة من القطع الكبير.
تلك، طبعا، متون رئيسية في التراث العالمي وامهات كتب بحق، ولكننا نعرف، بالمقابل، ان رامبو الذي غير وجه الشعر الفرنسي لم يترك وراءه اكثر من 300 صفحة!
المسألة، إذن، ليست مسألة حجم وان العدد كما يقول المصريون في (الليمون).
للاعمال الكبيرة مبرر يفرضه موضوعها، فقد تكون سيرة او غوصا في تاريخ ما، او تدوين واقعة كبري.
تلك طبعا تسمي اعمالا ملحمية.
وكان لها ما يبررها احداثا، ومفهوما واسلوبا كتابيين، في زمنها.
فما الذي ينعقد عليه ديوان جوزيف حرب من موضوعات قادرة علي تبرير ضخامة عمله في زمننا الصغير هذا؟
العنوان (المحبرة) يحيلنا الي الكتابة، ففيها مداد الكتابة وعنصرها المادي، لكن الديوان لا يتحدث عن الكتابة لا بالمعني الملموس ولا بالمعني الرمزي، انه طواف افقي في موضوعات الحياة والموت والخلق والفناء، مصطنعا الحكمة حينا ومقتفيا معجم التصوف حينا اخر، او ملامسا قصص التكوين واساطيره السائرة في الحضارات الشرقية القديمة من دون اي استيلاد لدلالات ومعان جديدة مما هو معروف، وان حصل هذا الاستيلاد فهو لا يتجاوز حدود المفارقة الساذجة.
لا شيء يبرر ان يكون هذا العمل كتابا واحدا وليس عشرة كتب او سبعة او خمسة، فليس هناك ما يمكن ان نسميه (وحدة الموضوع) التي نعرفها في الاعمال الكبيرة انفة الذكر، فليس موضوع الموت الذي يهديه جوزيف حرب كتابه الضخم هذا هو الذي ينتظم العمل في اطوار ومستويات واصوت متراكبة او متصاعدة، بل تراه، وتري غيره من الموضوعات، متراصفة علي نحو افقي لا تتغور ولا تنشبك ولا تتعقد .. فلا يعقل ان تسمع صوتا واحدا علي امتداد 1700 صفحة.
انه شيء في منتهي الملل والاصطناع.