الثلاثاء: 2006.09.19

د. مصطفى الفقي

في أثناء رحلتي الأخيرة إلى العاصمة النمساوية دعيت لزيارة متحف البرديات في ldquo;فييناrdquo; وهو المتحف الذي يضم أكثر من مائة ألف بردية أهداها الأرشيدوق Rainer إلى المكتبة الامبراطورية النمساوية في الفترة ما بين 1883 و1889 وهي أكبر مجموعة من البرديات المصرية خارج البلاد، ولقد عكف عدد من الأثريين النمساويين في نهايات القرن التاسع عشر برئاسة ldquo;تيودور جرافrdquo; على ترميم هذه المجموعة الضخمة وتحقيق عدد منها خصوصا وأن هذه البرديات مكتوبة في البداية باللاتينية واليونانية إلى أن بدأت كتابتها بالعربية منذ عام 648 ميلادية، وهي تضم وثائق قانونية وتجارية ورسائل سياسية، حتى أنه قيل لنا إن هذه الثروة المصرية لا تقدر بثمن ومن ضمنها مثلا نصوص من ldquo;كتاب الموتىrdquo; لدى قدماء المصريين، وبرديات عن إجراءات عملية التحنيط وصور لعدد من الموميات وكشوف بتكلفة المراسم الجنائزية، وإن كانت القيمة الحقيقية لهذه البرديات تبدو من أنها تضم مجموعة كبيرة من النسيج القبطي والفن الإسلامي أيضا، بالاضافة إلى التسجيل الدقيق للوجود الروماني واليوناني في مصر، إلى جانب كتابات بالعبرية ونصوص العهد الجديد بالسريانية مع نسخ كاملة من القرآن الكريم، وقال لنا المسؤولون عن هذا المتحف الفريد إنهم يحتاجون إلى دعم مالي لا يتجاوز المليون دولار يمكن الإنفاق من ريعها الشهري لاستخدام اثنين من الباحثين المتخصصين يقومان بعملية تصنيف وتبويب وتحقيق أكبر عدد ممكن من هذه البرديات التي تعد كنزا كاشفا عن ثلاثة أو أربعة قرون من تاريخ مصر ومنطقة حوض المتوسط بل وتاريخ العالم كله، لذلك فإنني أهيب بصديقي العزيز الدكتور زاهي حواس أمين عام المجلس الأعلى للآثار وهو المعروف بغيرته على التراث المصري ومتابعته للقطع الأثرية والوثائق المصرية أينما وجدت، أهيب به أن ينظر في هذا الموضوع الهام وأن يعطيه من علمه ووقته ما يكون كاشفا لفترة دقيقة من تاريخنا الوطني فضلا عن هويتنا الثقافية في مراحل مختلفة وأستأذن الآن في أن أتقدم بالملاحظات الآتية:

أولا: تكشف هذه البرديات عن أحداث فترة الفتح الإسلامي وما ارتبط بها من جدل تاريخي بين من يرون أن أقباط مصر استقبلوا الفتح العربي الإسلامي بحفاوة وترحيب وبين من يرون على الجانب الآخر أنهم إنما كانوا يتطلعون إلى من يخلصهم من ظلم الرومان ولم يكن يعنيهم في قليل أو كثير هوية القادم المنقذ، ولا شك أن جلاء هذه القضية والوقوف على حقيقة المشاعر المصرية تجاه الفتح العربي من خلال البرديات التي نشير إليها سوف يكون إنجازا إنسانيا وتاريخيا ضخما قد يغير تماما من قراءتنا لما استقر في الأذهان حول تلك المرحلة.

ثانيا: يجمع المؤرخون على أن مصر ظلت في الفترة ما بين الفتح الإسلامي حتى دخول ldquo;الفاطميينrdquo; إليها دولة قبطية في مجملها ولم تتحقق لها أغلبية مسلمة إلا بعد ذلك، من هنا فإن قراءة برديات هذين القرنين من الزمان سوف تكشف هي الأخرى عن قدر ضخم من الحقائق المتعلقة بالمشاعر المصرية والعلاقة بين المسيحية المصرية والدين الجديد القادم من شبه الجزيرة العربية وهو أمر تبدو له أهميته إذا تعرضنا لدراسة التاريخ الاجتماعي المصري والانصهار السكاني والوحدة القومية التي أسهمت

في تشكيل الهوية الوطنية لمصر بعد الفتح الإسلامي.

ثالثا: إن مصر التي توزعت كنوزها في ميادين العواصم الكبرى وتصدرت آثارها متاحف العالم العظمى بدءا من ldquo;المتروبوليتانrdquo; في ldquo;نيويوركrdquo; مرورا ldquo;باللوفرrdquo; في ldquo;باريسrdquo; وصولا إلى ldquo;الأرميتاجrdquo; في ldquo;بطرسبرجrdquo; مع زخم كثيف لنماذج الاكتشافات الأثرية المصرية في ldquo;لندنrdquo; وrdquo;برلينrdquo; وrdquo;فييناrdquo; وrdquo;روماrdquo; وغيرها من عواصم الدنيا، إن مصر مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بالتفتيش عن تراثها والبحث عن آثارها لأن سخاءنا في بعثرة الآثار المصرية خصوصا في عصر ldquo;محمد عليrdquo; وأولاده قد استنزف قدرا كبيرا مما نملك وحرمنا من قطع نادرة لا نزال نجاهد لاستعادة بعضها.

رابعا: إنني ممن يظنون أن وجود الآثار المصرية في الخارج ليس نقمة كله فهناك من يعتنون بها ويحرصون عليها فضلا عن أنها منسوبة للحضارة المصرية دون تشكيك أو مغالطة وهو ما يعني أن أية قطعة أثرية مصرية تخرج من البلاد وتلك جريمة ثقافية وحضارية هي سفير لمصر لدى من تصل إليهم، ونحن ما زلنا نتذكر أن الحضارة المصرية هي الحضارة الملهمة والمعلمة والتي يجب أن يكون وجودها الخارجي رسالة دائمة إلى من لا يعرفون قدرها أو يستخفون بمكانتها.

.. تلك قضية رأيت أن أطرحها في زحام الأحداث الدامية التي تحيط بنا حاليا في المنطقة ليس هروبا منها فقد أوفيناها حقها ولكن لنذكر البعض بأهمية العامل الثقافي في تشكيل الهوية الوطنية والتعريف بالشخصية المصرية، ولا شك أن رؤوسنا تطاول السماء فخرا وسموقا عندما نتجول في أروقة المتاحف الدولية ونرى أن أغلى مقتنياتها مصرية حتى أن الشارع المؤدي إلى المتحف البريطاني يحمل اسم ldquo;الشارع القبطيrdquo; في إشارة إلى الكنوز المصرية التي يضمها ذلك المتحف.