الخميس: 2006.09.21

د. رضوان السيد

أراد البابا في محاضرته بجامعة بون يوم 12/9/2006، اقتراح برنامجٍ لمصالحة الكاثوليكية مع الحداثة، واستعادة أوروبا للمسيحية، والمسيحية لأوروبا. بيد أنّ برنامجه ما أثار أيَّ نقاش حتى الآن بين الأوروبيين، رغم الإشكاليات الكثيرة التي تحيط به لجهة رؤيته للتاريخ، ورؤيته للحداثة، وأخيراً رؤيته لآليات ووشائج المصالحة. بل النقاش الذي أثير كان وما يزال، مع المسلمين ومع الإسلام. وقد تجلّى ذلك في ردود فعلٍ كلامية عالية النبرة وصلت إلى حدود العنف أحياناً، ويرجع ذلك إلى أن البابا مهَّد لمحاضرته بذكر نصٍّ لمحاورةٍ مفترضة دارت بين الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1390-1420)، ورجل فارسي (مسلم) بين العامين 1394 و1402 حول الإسلام وحول دعوة النبي وحول الجهاد. كان السلطان العثماني بايزيد الأول يلدرم وقتها يحاصر أنقرة والقسطنطينية، وربما كان الفارسيُّ الذي يذكره الإمبراطور في محاوراته (نشرها بالألمانية الأستاذ ذو الأصل اللبناني عادل تيودور خوري عام 2005)، أحد الرسل الذين أرسلهم السلطان العثماني إليه. لكنّ الحوار أو الجدال ربما كان مفترضاً، أي أنه لم يجرِ فعلاً، بل إنّ الإمبراطور نظمه على طريقة السؤال والجواب، كما كان معروفاً في الجداليات الكلامية والدينية في العصور الوسطى. وأقول إنه قد يكونُ، أي الجدال، مفترضاً، لأن الفارسيّ لا يكاد يجيب بشيء خلال المحادثات على اتهامات الإمبراطور غير المسوّغة في كثير من الأحيان! المُهمُّ أن الإمبراطور يقول للعالم الفارسي كلاماً معناه أن النبيّ محمداً ما جاء بجديدٍ في المسائل الدينية، إلا إذا كنتَ تعتبر أنّ فرض الإسلام بالسيف هو أمرٌ جديد. فالجهاد الذي يدعو إليه القرآن (ويرى فيه الإمبراطور إرغاماً على اعتناق الإسلام) هو عمل غير عقلاني، والعمل غير العقلاني وغير الإنساني، يناقضُ طبيعة الله العاقلة. وهنا يقول البابا إن هذه المسألة بالذات هي التي تُهمّهُ، أي مسألة طبيعة الله العاقلة أو اتفاق تصرفاته عزّ وجلّ مع العقل. ثم ينطلق ليشرح التاريخ المسيحي لأوروبا من هذا المنطلق، ولا يعودُ إلى موضوع التمهيد، أي صورة الله في الإسلام، وعلاقة الجهاد بالعقيدة الإسلامية، ورسالة النبي quot;الشريرةquot; (بحسب الإمبراطور)، إلا في ختام المحاضرة، عندما يكتفي بذكر أن الإمبراطور قال للفارسي: إنّ العنف يخالف طبيعة الله (العاقلة).

وهكذا، في الظاهر، لا يتعرضُ البابا للإسلام في محاضرته، وليس هذا هو موضوعه، لكنه لسببٍ ما لم يجد غير كلام مانويل الثاني في القرن الرابع عشر للاستشهاد به، والاستناد إليه. وإذا كان يريد الاستشهاد بكلامه في طبيعة الله العاقلة، فقد كان يمكنه الاكتفاء بالقسم الأخير من الحوار أو الجدال، ولا داعي لذكر الحادثة المفترضة بكاملها، والتي يرِدُ فيها اعتبارُ رسالة النبي ذات طبيعة quot;شريرةquot;، واعتبار الجهاد فرضاً للإسلام بالسيف. ويزيد الطين بلّة أن البابا و(خوري ناشر الجدال) يمضيان في الدفاع عن أطروحة الإمبراطور في المسألتين: مسألة صورة الله (غير العاقلة) في الإسلام، وعُنفية الجهاد! يقول الرجلان إن القرآن يذكر أنه لا إكراه في الدين، لكنّ السورة التي وردت فيها الآية هي سورة مبكّرة، وقد تعدّل هذا الحكم وتطور فيما بعد عندما قوي النبيُّ وصارت لديه قوةٌ عسكريةٌ وقد سجّل ذلك القرآن(!)، ويقولان أيضاً إن صورة الله سبحانه وتعالى في القرآن والإسلام شديدة التنزيه بحيث لا يجوزُ إخضاعُها لأي مقياس عقلي. وحتى أنّ ابن حزم يقول إنه سبحانه لا يرتبط حتى بكلامه (وعده ووعيده)! هذه التفصيلات كلها لا علاقة مباشرة لها بمحاضرة البابا الذي يمضي بعد ذلك إلى حديثٍ يتضمن تأويلاً جديداً لتاريخ اللاهوت المسيحي الأوروبي، وتاريخ أوروبا مع المسيحية وتاريخ المسيحية مع أوروبا!

والذي أراه أنّ تمهيد البابا لم يكن بريئاً، من عدة نواحٍ. الأولى اختياره لحظةً صراعية مع الإسلام في التاريخ البعيد لبدء الحديث منها. والثانية تعمُّدهُ ذكر مسألتي الجدال البيزنطي الرئيسيتين ضد الإسلام: اللاعقلانية، والعنف. والثالثة اجتهادُهُ هو والبروفيسور خوري (ناشر النصّ البيزنطي) لدعم وجهة نظر الإمبراطور بالقول إن آية quot;لا إكراه في الدينquot; ما ظلّت سارية المفعول، وإنّ في القرآن آيات تقول بنشر الدين بالعنف جاءت بعد آية تحريم الإكراه، وأن رأي الإمبراطور صوابٌ في quot;عدم معقوليةquot; صورة الله في القرآن والإسلام. والرابعة أن البابا ذكر ذلك كلَّه وهو يعرف السياقات الحالية العالمية، والتي تحوط الإسلام والمسلمين بالحصار بسبب اتهامهم واتهام دينهم بالعنف والأعمال غير العقلانية وغير الإنسانية. وهذا كلُّه يُسيء إلى البابا، وإلى العلاقات بين المسلمين والكاثوليك، كما يُسيء للعيش الإسلامي-المسيحي في المشرق، باعتبار البابا أعلى المرجعيات الدينية المسيحية في العالم. ولذلك فإنّ تراجُعَ البابا القاطع عن استشهاده ودعم ذاك الاستشهاد، ضروريُّ لتجنب المزيد من التردِّي، وبخاصةٍ أن البابا السابق يوحنا بولس الثاني سعى طويلاً لإقامة علاقات صحيةٍ مع المسلمين. ثم إن أوروبا الكاثوليكية والعلمانية على حدٍ سواء، تُظهر تعاطفاً واضحاً هذه الأيام مع لبنان وفلسطين.

مارس البابا من خلال نصِّه ما يمكن اعتباره مَكراً يتناولُ النصَّ، كما يتناولُ التاريخ. لكنه ما كان يمارس حرباً صليبية، كما ذهب لذلك المسؤولون الدينيون الإيرانيون وبعض الآخرين. فالبابا لم يفعل أكثر من الخضوع للجوّ العالمي العام، وقد يكون ذلك أمراً لا يليق بمن هو في مثل مقام البابا، لكنَّ هذا هو الذي حصل. الجوُّ العالميُّ العامُّ ومنذ ما قبل أحداث سبتمبر التي حلّت ذكراها الخامسة قبل أسبوع، هو جوُّ معادٍ للمسلمين وللإسلام، أو أنّه شديد التوجُّس. وحتى الذين يظهرون تعاطفاً مع قضايانا لا يُخفون عنّا همَّهم بشأن عنف الأصولية الإسلامية. وقد كان بعض المعادين للصهيونية يقولون: وقفنا مع الشعب الفلسطيني ضدّ العنصرية والاحتلال الإسرائيلي، كما وقفنا مع الشعب العراقي ضدَّ الغزو الأميركي، لكننا الآن، وفي ضوء ما يجري في العراق وفي الصومال وفي السودان... بعد أحداث سبتمبر ولندن ومدريد وبالي وغيرها، نشعر بأن عندكم أو بكم مشكلة، أنتم تتلبسون العنف، والعنف يتلبسُكم، بل نشعر أن المسألة أعمق من أن تكون ردّة فعلٍ على العنف الذي مارسه الصهاينة والمستعمرون الآخرون عليكم وأعمق مما مارسه الأميركيون ويمارسونه ضدَّكم! وهذا الكلام الذي يقوله الأصدقاء والمتعاطفون على استحياء، يقوله المتشككون والخصوم بصوتٍ أعلى. لقد صار الإسلام مشكلة عالمية، وعلينا أن نفهم ذلك لكي نستطيع القيام بمراجعةٍ لأنفسنا ولثقافتنا، وبالتالي لأسباب توتُّر علاقتنا بالعالم.

لقد اعتاد كثيرون منا على الاستخفاف بالكلام الذي يردّده الخصومُ من الصهاينة والأميركيين، وحجتُهم في ذلك أن أيادي هؤلاء ملوّثة بدمائنا، ومن الطبيعي أن يقولوا ذلك، ولستُ من أنصار الاستخفاف حتى بكلام الأعداء. لكنّ الأمر، كما سبق القول، ما عاد قاصراً على صراخ الأعداء، بل تعدى ذلك إلى استغاثة المتعاطفين أو همهماتهم. وهؤلاء يجزعون ليس بسبب الهجمات العشوائية التي يقوم بها الراديكاليون الإسلاميون وحسب، بل وبالصدى الإيجابي الذي تلقاه تلك الهجمات في أوساط الجمهور المسلم، وبسبب التبريرات والتسويغات التي تجدُها تلك التصرفات الدموية حتى لدى المثقفين وصنّاع الرأي العام من المعلِّقين السياسيين، ووسائل الإعلام المرئية والمكتوبة. الراديكاليُّ العقائديُّ المتصرف في الدماء باسم الإسلام هذا هو المنتظَر منه، لكن لماذا يستحسنُ ذلك المواطنون المُسالمون؟ هل يعود ذلك إلى كراهيتهم لأنظمتهم وللولايات المتحدة ولإسرائيل؟ الكراهية في العادة تدفعُ للتغيير، وليس لليأس وبالذات لدى الشعوب. الأفراد يمكن أن ييأسوا فينتحرون وينحرون، أما الشعوب التي تكره الدمَ والموت والحروب الأهلية، فتميلُ للبدائل السلمية التي تُخرجُ من المأزق، وليس تلك التي تؤدي إلى المزيد من الغرق فيه.

ولو تركنا العالمَ وعلاقتنا به للحظات -مع أن ذلك صعبْ أو غير ممكن- وتأملنا في أوضاعنا قبل منظرِنا أمام العالم، لوجدنا أن العنف الدمويَّ ينخر عظامنا، دون أن يدفع ذلك للخروج من دائرة اللاجدوى. إننا نواجهُ في الحقيقة ثلاث مشكلات رئيسية: العجز عن التغيير، وتراجُع أو انهيار البُنى المدنية والسياسية والتعليمية والأخلاقية، وازدياد التشكُّك والتوتُّر في العلاقة مع العالم. وقد أساء ذلك إلى ثقتنا بأنفسنا وقُدُراتنا، والانتقاص الشديد من ثقة العالم بنا واطمئنانه إلينا أو إلى إمكانيات التعاون وبناء علاقات صحية ومستقبلية. ووسط ذلك كله تشتعل النار بدواخلنا باسم الإسلام، وتتداعى علينا الأمم رجاء السيطرة على الثروات من جهة، وتأمين أنفسهم ومصالحهم في وجه ما نعتبره مقاومة لظواهر الاستئثار والغزو والاحتلال!

إنّ حديث البابا العارض إنذارٌ خطيرٌ، فحتى الأوساط الجدية وغير المعادية، تعتبرنا نموذجاً للفشل في الانتظام الداخلي، والفشل في إقامة علاقات صحيةٍ ونديةٍ مع العالم. إن لنا حقوقاً لا نحصُلُ عليها، وعلينا مسؤوليات لا نُظهر استعداداً لتحمُّل أعبائها. إنّ حديث البابا مشكلة، لكنّ المشكلة الأكبر أن هناك من الظواهر عندنا ما يوحي بصحة بعض ما قال البابا. فلنفهم الدرس، ولنلتفتْ إلى وجودنا ومصالحنا، ولنكن مع أنفسنا لكي يراجع العالم موقفه منّا.