د. عبدالإله بلقزيز


ثمة الكثير مما يخيف في كلام بابا الفاتيكان حول ldquo;العقل والإيمانrdquo; وقدح نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم من طريق اتهامه بنشر رسالته بالعنف، أي بالجهاد الذي هو قرينة على العنف في نظر الحَبر الأعظم الكاثوليكي الجديد:

* أولُ ما يخيف في ذلك الكلام سياقه الدولي الذي ورد فيه وما يُلابس ذلك السياق من اشتباه في وجود علاقة ما، أو خيط ناظم رفيع ما، بين إساءة بينيديكتوس السادس عشر للإسلام ونبيه ولمشاعر المسلمين وبين حملة سياسية أمريكية على العالم الإسلامي وحركات المقاومة فيه انتقلت سريعاً من الحديث عن الحرب على ldquo;الإرهابrdquo; حديث عموم وإبهام الى الحديث عن الحرب على ما دعاه قائد الحملة جورج بوش ب ldquo;الفاشية الإسلاميةrdquo; حديث تخصيص! قد يكون الاقتران بين الحملتين البابوية والبوشية في الزمان مصادفة تلقائية من دون سابق ترتيب، وما أعظم أملنا في أن يكون الأمر كذلك. لكن الاقتران إياه سرعان ما يستثير الذاكرة ويحفزها على استعادة سابقة معاصرة من العلاقة بين الفاتيكان والبيت الأبيض لم تحصل اتفاقاً وبمحض المصادفة هي التطابق بين جدول الأعمال الديني ليوحنا بولس الثاني -حَبر الفاتيكان الأعظم السابق- وبين جدول الأعمال السياسي لرونالد ريغان: رئيس الولايات المتحدة وrdquo;حَبرrdquo; المحافظين الجمهوريين الأسبق. وكان موضوع التطابق وهدفه حينها -أي قبل عشرين عاماً- هو مواجهة العدو الكوني المشترك: الشيوعية ldquo;ممثلةrdquo; في الاتحاد السوفييتي والمعسكر ldquo;الاشتراكيrdquo;. من يضمن اليوم ألا يتجدد الاقتران عينه بين أهداف الأحبار في الفاتيكان وأهداف أشباه الأحبار في واشنطن؟!

* وثاني ما يُخيف في ذلك الكلام ما انطوى عليه من قدر هائل من الاستعلاء والكبر في مخاطبة المسلمين من طريق الحديث عن نبيهم بحرية نقدية، بل اتهامية، ما سمح بها لأنفسهم أشد المتعصبين من الإسلاميين لدينهم من المُماهين -من دون وجه حق- بين المسيحية والصليبية وهم يتحدثون عن يسوع المسيح (عيسى بن مريم). أبلغُ مظهر لذلك الاستعلاء إجازة البابا لنفسه الحق في وضع علامات الرضا أو السخط على مضمون الرسالة الدينية لرسول الإسلام العظيم وتقرير ما إذا كانت تستوفي معنى الرسالة أم لا، بل القدح في تسامحها وإسقاط وسائل الإقناع التي توسلت بها قصد التبليغ! يضع البابا نفسه فوق النصاب البشري في هذه الحال مفوتاً لنفسه سلطان محاسبة ليس يعود لغير الله في الأديان كلها! يقول ذلك من موقع النصرانية (وقد كرمها الإسلام في كتابه كما لم يُكرم عقيدة أخرى). وفي وسع أي مسلم أن يأبى على النصرانية أن ينطق باسمها ناطق على النحو الذي نطق به!

أما أسوأ مظهر لذلك الاستعلاء، فهو استسهال البابا الإساءة الى المشاعر الدينية لمليار ونصف المليار من المسلمين دون أن يرفّ لقداسته جفن، ثم الإمعان في احتقار عقولهم وذكائهم بإبداء ldquo;الأسفrdquo; لعدم فهمهم لما فَاهَ به من رأي حصيف! ولست أشك في أن في أتباع الطائفة الكاثوليكية الكريمة في العالم الكثير الكثير من العقلاء ممن يستطيعون إفهام البابا بأن المسلمين بشر يشعرون وليسوا بعوضاً أو أشباه بشر. وحسب البابا أن يدرك أن هؤلاء ldquo;البعوضrdquo; يسمونه ldquo;قداسة الباباrdquo; مع إيمانهم بأن القدسية والحرم والعصمة ليست لبشر -في عقيدتهم- سوى لنبيهم. فهل لقداسته أن يتعظ بهذه السابقة النادرة في باب التسامح الذي يستكثره على المسلمين ونبيهم؟

* وثالث ما يُخيف في ذلك الكلام المخيف أن يقود -ربما من حيث لم يحتسب أو يقدر- الى الإيقاع بين المسلمين وشركائهم من المسيحيين في الوطن والأمة: أعني المسيحيين العرب الذين يزيدون عدداً على العشرين مليون عربي في مصر ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين والأردن، والذين فاقوا المسلمين أحياناً تمسكاً بالعروبة والانتماء القومي. نخشى أن يكون هؤلاء المسيحيون العرب، وخاصة الكاثوليك منهم، خارج اهتمام البابا الجديد بمصيرهم في أوطانهم: وتلك المصيبة الأعظم! وإذا كان مما يؤسف له شديد الأسف، ومما يبعث على الاستنكار في الوقت نفسه، ما حصل من اعتداء مادي على بعض الكنائس في البلاد العربية والإسلامية من تلك التي تنتمي الى الكنائس الشرقية غير التابعة للكنيسة الكاثوليكية الغربية في روما (أي الفاتيكان)، بل إذا كان أي اعتداء على الكاثوليك العرب (موارنة أو روم كاثوليك...) جريمة في حق الأمة والوطن وسقوط في مصيدة دعاة الصراع بين الديانات -التي زادتها ldquo;أطروحاتrdquo; بينيديكتوس السادس عشر أواراً- فإن مما يريح النفوس ويهدئ الخواطر ما صدر من مواقف عن قداسة البابا شنودة (بابا الكنيسة القبطية في مصر) وعن مراجع دينية عربية أورثوذوكسية مسيحية في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والأردن وضعت نفسها بعيدا عن مواقف بابا الفاتيكان، وأعادت التأكيد على الأخوة المسيحية - الاسلامية في الوطن العربي وعلى الشراكة الكاملة بين أتباع الديانتين في الهوية والوطن والمصير.

* أما رابع ما يخيف في كلام البابا المخيف، فأن يقود الكلام ذاك الى توسعة الخرق والفجوة بين المسلمين والعالم المسيحي وخاصة في الغرب.

والخرق هذا محتمل الوقوع على صعيدين: على صعيد العلاقة بين العالم الاسلامي - والعربي منه - عموما وبين الغرب (المسيحي)، ثم على صعيد العلاقة بين العرب والمسلمين وبين المسيحيين داخل الغرب نفسه، فهو سيوفر الذريعة لكل من لديهم شغف من الجانبين - الاسلامي والمسيحي - بالخوض في معترك النزاعات الدينية أو اللابسة لبوسا دينيا، وثمة كثير من الموتورين من الجانبين تجيشهم دعوات المفاصلة والصدام سيجدون في مواقف البابا اما تحريضا على المسلمين او دليلا على ldquo;صحةrdquo; مقالة بعض اسلاميينا عن عدم تحرر الغرب من صليبيته. وهو من وجه ثان، سيضغط على النسيج الاجتماعي الداخلي في العديد من البلاد العربية والإسلامية القائمة على تكوين ديني تعددي، وقد يغذي مشاعر الانكفاء والتعصب لدى الطوائف الاسلامية والمسيحية او يمزق وشائج الرباط الاجتماعي والوطني بينها. وما أكثر خوفنا خاصة من أن ينجر الغاضبون في مجتمعاتنا، المحتجون على ما أصابهم ودينهم من إساءات، الى حيث يسقطون في الفخ المنصوب: الإيقاع بين المسلمين والعالم.

بقي أن نقول انه لن ينفع كثيرا مطالبة البابا بالاعتذار أكثر، ليس لأنه ldquo;اعتذرrdquo;، بل لأنه لا يجد ما يعتذر عنه. لقد قال رأيه الذي هو مقتنع به - كحبر وكعالم لاهوت - وانتهى الأمر. لن يملك أحد أن يغير رأيه في الاسلام، وإن كان ممكناً أن يغير رأيه في المسلمين، ولا يكون ذلك، في ما نخال، إلا بترشيد حركة الاحتجاج على الإساءة، وضبط ذلك الاحتجاج ضمن الحدود والقواعد التي لا تسيء الى المسلمين ولا تقيم الحجة عليهم والحجة لمن أساء اليهم. ان الكثير من التوتير والتجييش الذي يجري اليوم لا يليق بصورة المسلمين في العالم. ينبغي ان يتوقف خطاب الغرائز، ويبدأ خطاب العقل كي ينتصر المدافعون عن عقيدتهم في امتحان الاحتجاج، أعني: كي يحولوه الى احتجاج حضاري.