جهاد فاضل

يمكن اعتبار مسلسل الملك فاروق مجرد حلقة في سلسلة من الأحداث الثقافية التي تعيد الاعتبار لمراحل سياسية سابقة لا في مصر وحدها، بل في مصر وسائر الأقطار العربية التي ابتليت بالأنظمة العسكرية.

فمن يراقب الإصدارات الفكرية التي تصدر في العواصم العربية، يجد كمّاً هائلاً من الكتب التي تتحدث عن الأسرة المالكة العراقية وعن نوري السعيد، وعن شكري القوتلي وجميل مردم وخالد العظم وأكرم الحوراني، وعن مرحلة الانتداب الفرنسي علي لبنان وسوريا، وما حققته هذه المرحلة ومرحلة الاستقلال التي تلتها من انجازات قبل أن تسقط سوريا في حمأة الانقلابات العسكرية، وقبل أن يصل أثرها الي لبنان الذي ما يزال يعاني بصورة أو بأخري من طغيان الجماعات المسلحة.

وإذا كان من المتعذر علي الليبيين أن يصدروا كتباً عن مرحلة الملك إدريس السنوسي، فالليبيون المقيمون في الخارج قد تكفلوا بأداء ذلك. فإذا اطلع القاريء العربي علي تاريخ ليبيا زمن الملك إدريس السنوسي، وهو سليل أسرة صوفية، اكتشفوا أن طرابلس الغرب السنوسية كانت شبيهة ببيروت زمن عزها، وأنها كانت مدينة ناهضة منفتحة علي الحضارة الحديثة، وآخذة منها بنصيب وافر.

والواقع أن هناك حنيناً الي ذاك الماضي الجميل الذي شهدته الأقطار العربية قبل مرحلة الانقلابات العسكرية التي بدأت في سوريا عام 1949 علي يد حسني الزعيم، وفي مصر بعد ثلاث سنوات، أي في عام 1952 علي يد جمال عبدالناصر ورفاقه.

في تلك الفترة الذهبية التي سبقت الانقلابات، كان هناك سياسة وسياسيون، وهذا ما انعدم بعد ذلك إذ أُنيطت السياسة بحاكم فرد مطلق الصلاحية يمكنه أن يفعل ما يشاء، ومن ذلك شنّ الحروب وإعلان حالة الطواريء الي ما شاء الله، وإلحاق الأذي العضوي التاريخي ببلده أو بأمته، دون أن يملك أحد حق محاسبته، ودون أن تبدر منه عندما يخرج سوي استقالة مسرحية سرعان ما يتراجع عنها.

ولأنه كانت هناك سياسة، فقد كانت هناك حرية وديمقراطية قد لا تكونان مكتملتين أو ممارستين علي النحو السائد في بلدان الحضارة، ولكنهما كانتا مؤهلتين للنمو والازدهار مع الوقت. إلا أن مجيء الأنظمة العسكرية قضي عليهما قضاء مبرماً.

ولأن الحرية والديمقراطية شرطان لا غني عنهما لنمو المجتمع، ولنمو العقل والعقلانية والتفكير العلمي، فقد كان حرمان المجتمعات العربية منهما علي مدي نصف قرن تقريباً، ضربة مميتة للمستقبل العربي علي كل صعيد. وأية نظرة موضوعية الي مجتمعاتنا التي لا تزال ترزح تحت وطأة هذا النوع من الأنظمة الدكتاتورية، كفيلة بإقناعنا بأن هذه المجتمعات مرتبطة بالقرون الوسطي أكثر مما هي مرتبطة بالعصر الحديث.

وقد كان لمسلسل الملك فاروق فضائل كثيرة. فقد تبين أن مصر الحديثة، أو مصر نفسها، لم تولد في 23 يوليو عام ،1952 كما فُهم من أدبيات ثورة يوليو وإعلامها، وإنما ولدت قبل ذلك بكثير. وبصرف النظر عن الإشارة الي تاريخ طويل لمصر مع الحضارة والتمدن، نكتفي بالإشارة الي تاريخ مصر بين ثورة عام 1919 وثورة عام 1952.

فمصر بين هاتين الثورتين عرفت مرحلة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مزدهرة. ويكفي الإشارة الي رموز هذه المرحلة في شتي المجالات، حتي يتأكد لنا أن مصر لو استمرت بلا عسكر وانقلابات، لكانت الآن بلداً أوروبياً مثل ايطاليا أو اسبانيا.

ومع أن مصر كانت خلال هذه المرحلة ترزح تحت الاستعمار البريطاني الذي كان في ذروة جبروته يومها، إلا أن الحركة الوطنية المصرية كانت كفيلة بإزاحته مع الوقت، وبالوصول الي مجتمع حديث مستكمل لكل أشكال الحداثة. ولم يكن الملك فاروق بالذات شريراً وساقطاً ومبتذلاً كما صورته ثورة يوليو، وإنما كان حاكماً له، كما لأي حاكم، حسناته وسيئاته.

وها هي الدراسات التاريخية حول فاروق التي يصدرها اليوم مؤرخون مصريون معروفون بالنزاهة والتجرد، تكتشف لعهده، وحتي لشخصه، من المزايا والايجابيات، ما يضعنا وجهاً لوجه أمام عصر بالغ الغني والحيوية. ففاروق، بالرغم من كل مباذله،كان ملكاً وطنياً مخلصاً لمصر.

ولأسرة محمد علي في الفضائل والانجازات ما لا يستطيع أي مؤرخ إنكاره. ويكفي فاروق بالذات فخراً أن مصر عرفت في زمانه حياة ديمقراطية مزدهرة، ولدرجة القول إن اليسار المصري تكوّن خلال تلك الفترة وعاش أزهي أيامه.

في حين أن هذا اليسار ضُرب بعد ذلك، زمن عبدالناصر والسادات علي الخصوص، ضربات موجعة بل قاتلة. وها هي مصر تكتشف فاروق، أو تكتشف نفسها، عبر هذا المسلسل، وتقارن بين عهدين، لا يكون عهد فاروق خاسراً عند المقارنة. فإذا كانت لفاروق مباذله وسلبياته، فيكفي أن الديمقراطية كانت مزدهرة في عهده. والديمقراطية وحدها كفيلة بأن تغفر له ذنوبه ولو كانت كثيرة.

ومع أن أحداً لا يشك بأنه كان لعبد الناصر ايجابيات كثيرة، إلا أن سلبية واحدة لعهده، (ولا نتحدث هنا عن باقي السلبيات) هي انعدام الديمقراطية في نظامه، جعلت وضعه قلقاً أمام التاريخ، بل ومصاباً بعيب جوهري لا ينفع شيء في علاجه. فيا للديمقراطية من قيمة للحاكم لا تعدلها أية قيمة أخري. ويا للاستبداد من سلبية لا تنفع كل ايجابيات الأرض في علاجها وتغطيتها.

والذين ينوحون ويبكون دماً علي عصر فاروق في مصر، وعصر نوري السعيد في العراق، وعصر السنوسي في ليبيا، وعصر القوتلي وناظم القدسي في سوريا، وعصر بشارة الخوري وكميل شمعون، وسائر عصور ما يسمي بالرجعية في هذا البلد العربي أو ذاك، ليسوا جميعاً من جماعة اليمين. بل اللافت أن اليساريين العرب، قبل سواهم، هم الذين ينوحون ويبكون.

فمن راقب الكتابات الكثيرة التي كُتبت عن مسلسل الملك فاروق، وأنصفت هذا الملك المظلوم، تبين أن قسماً كبيراً منها كتبه يساريون حاليون أو سابقون. أعاد هؤلاء مراجعة صفحة أولئك الملوك أو الحكام السابقون، وقارنوها بما استجد علي أوطانهم ومجتمعاتهم من صفحات، فوجدوا أن التاريخ كان حاضراً في العصور الملكية، في حين انه اختفي نهائياً في العصور التي تلتها..

لم يُنكر أحد أن مباديء الانقلابيين التي تلت البيان رقم واحد، كانت أفضل من مباديء الرجعيين، من ملوك أو غير ملوك، ولكن الأخلاق السياسية لهؤلاء الرجعيين كانت أفضل بما لا يُقاس من أخلاق الانقلابيين.

ولعل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري كان طليعة ذوي الاتجاهات اليسارية في البكاء علي نوري السعيد وزمانه. يعرف الجميع أن الجواهري أمضي قسماً كبيراً من حياته مناوئاً لنوري السعيد وسياساته. بل كان المعروف عنه أنه التحق بالشيوعيين العراقيين وتحول الي شاعر يتغني بستالينغراد وستالين وسائر الرموز الشيوعية.

ولكن الجواهري كتب في الثمانينيات من القرن الماضي، وفي مذكراته التي صدرت في دمشق، فصولاً ضافية عن نوري السعيد يمكن اعتبارها بمثابة إنصاف ولو متأخر لنوري السعيد الذي كانت وسائل الإعلام الشيوعية، أو غير الشيوعية، تصوّره كعميل للانجليز وخادم لمصالحهم في العراق والمنطقة.

فإذا بالجواهري، وبسواه من اليساريين العراقيين والعرب، ينظرون الي نوري السعيد بعد ذلك نظرة أخري. لقد تحوّل بنظرهم الي رجل دولة من طراز رفيع، والي عراقي وعربي مخلص غيور علي مصالح بلاده ويتميز بنظرة براغماتية وواقعية.

لقد كان المبرر الذي أعطاه الانقلابيون العسكريون لانقلاباتهم، هو الثورة علي الأنظمة العربية التي تسببت بالهزيمة في حرب 1948 مع اسرائيل، وبالتالي الثأر من تلك الهزيمة. وقد فرحت الشعوب العربية فرحاً عظيماً يومها لحصول تلك الانقلابات علي أساس ان الحق سيعود الي نصابه في فلسطين، وأنه سيكون للعرب دول حديثة ناهضة، ولكن الأيام الطويلة مرّت ولم يحصل شيء من ذلك. ففلسطين ازدادت قضيتها تدهوراً.

بل ان قضيتها تدهورت أكثر علي يد هؤلاء الانقلابيين. بل إن بعض هؤلاء الانقلابيين باتوا يعتمدون علي إسرائيل في استمرار أنظمتهم. أما مسائل التنمية والبناء الداخلي فقد أهملت مع الوقت إهمالاً كاملاً.

وترحّم الجميع علي عصور الرجعيين الذين لم يلجأوا الي كتم الصوت ولا الي كاتم الصوت، بل كانوا بشراً عاديين لهم أخطاؤهم كما لسائر البشر. ولكنهم كانوا قبل كل شيء ديمقراطيين وشرفاء. وكانت الحياة في زمانهم واعدة، وكان كل شيء قابلاً للتطور والتقدم. وكل ذلك انعدم في عصر كاتم الصوت!.

إن الحنين الي العصور الملكية السابقة يخفي رومانسية بلا شك، ولكنه يخفي حرقة وشعوراً مريراً بالخيبة. لقد كان بإمكان البلاد العربية، لو لم تُنكب بالانقلابيين، أن تتابع حياة طبيعية ملأي بالوعود والآمال.

في الخمسينيات من القرن الماضي، زمن حسني الزعيم وعبدالناصر وبقية الانقلابيين العرب، لم يكن ما يسمي الآن بالنمور الآسيوية نموراً. لقد كانوا مثلنا غارقين في الفقر والتخلف. وقد استمعتُ بنفسي مرة الي مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا السابق، يقول إن النهضة الاقتصادية التي تشهدها ماليزيا الآن، لا يزيد عمرها، علي ربع قرن. فقبل ربع قرن كانت ماليزيا بلداً آسيوياً متخلفاً.

ولكن بالعلم والعزم والحلم، تحولت ماليزيا الي بلد صناعي عظيم. وما يقال عن ماليزيا يُقال عن باقي النمور الآسيوية التي بدأت نهضتها الصناعية الحديثة في الوقت نفسه تقريباً الذي بدأت به ماليزيا نهضتها. وها هي الآن من الدول الصناعية الكبري في العالم. ولكن هذه الدول لم تعرف الانقلابات العسكرية والأنظمة الوحشية التي عرفتها بعض أقطارنا، بل سارت علي طريق التطور والنماء.

وكانت بلادنا مهيأة بلا شك، لولا هذه الأنظمة التي نتحدث عنها، لأن تشهد من التطور ما تشهده ماليزيا وبقية الدول المجاورة لها. ولكن حدث ما حدث، وأدي الي ما يشبه الاستقالة من العصر. وها نحن نبكي اليوم علي عصور عربية سالفة كنا في زمانها نبكي منها، فإذا بنا اليوم بعد انقضائها القسري، نبكي عليها!.