رجاء النقاش

الدكتور علي جمعة مفتي مصر عالم جليل، وله بالإضافة إلى علمه جاذبية تجعل الناس يحبون أحاديثه على شاشات التليفزيون وما يجريه في هذه الأحاديث من حوارات مع جمهوره الكبير، وقد التقيت بالدكتور علي جمعة مرة واحدة في مناسبة من المناسبات، وتبادلت معه الحديث، وتفضل الشيخ الجليل فأزال الكلفة بينه وبيني، وتكلمت معه على راحتي واكتشفت أنه إلى جانب علمه الغزير إنسان laquo;ابن البلدraquo; بكل ما يعنيه هذا الوصف من معاني الطيبة والتسامح والتعامل الكريم مع الناس أجمعين.

هذه صورة عامة للدكتور علي جمعة، وهو في معظم حواراته وأحاديثه ومحاضراته وندواته التليفزيونية رجل يفيض علما، وله طريقة سهلة جذابة جدا في التعبير عن أفكاره، وهي طريقة يحبها الناس ويتعلقون بها، ويلتفون من أجلها حول الشيخ الجليل.

على أن سوء الحظ قد جعل مشاعر الناس نحو الدكتور جمعة في بعض الأحيان متضاربة متناقضة، وذلك نتيجة لبعض أقواله العجيبة التي تصدر منه بين فترة وأخرى، مثل قوله الذي فهمنا منه أن التماثيل حرام، رغم أن الشيخ محمد عبده وهو إمام المجددين الدينيين في العصر الحديث، نفى تماما أن التماثيل حرام، وقال إنها تقام الآن لتذكير الناس بفضائل أشخاص خدموا الإنسانية، أو للحض على التقدم والنهوض مثل تمثال laquo;نهضة مصرraquo; الذي ليس فيه ـ بعد جماله الفني ـ سوى دعوة للمصريين أن يرفعوا رؤوسهم، وأن يصبحوا جادين في عملهم وحياتهم حتى يحصلوا على النجاح والسعادة والاستقرار والطمأنينة لأنفسهم وللمجتمع كله.

ثم جاء حديث الدكتور جمعة عن laquo;بول الرسولraquo; وقيام الصحابة بالتبرك به، وهو أمر لم يسمع به أحد من المسلمين، على الأقل في هذا الجيل، فلماذا يثيره الدكتور جمعة الآن ويجادل جدلا عنيفا لإثبات صحته؟ إنه نوع من القول ليس من الضروري تكراره، أو البحث وراءه، أو تأكيده وإعلان الاستعداد لدخول أي نوع من المصارعة الفكرية ضد المنكرين له والذين يرفضون هذا النوع من الكلام ويعتبرونه مضرا أكثر منه نافعا للمسلمين.

وتكررت مثل هذه الأقوال للدكتور جمعة، ولا أسمي هذه الأقوال فتاوى، وكان آخرها حديث الدكتور عن الشبان المصريين الذين حاولوا الهرب إلى إيطاليا واليونان بحثا عن الرزق فغرقوا في البحر، وتم انتشال جثث بعضهم وإعادتها لدفنها في تراب بلادها، فقد قال الدكتور جمعة إن هؤلاء الشباب ليسوا laquo;شهداءraquo; بل هم شباب يجرون وراء أحلامهم في الثراء والحصول على المال، وهم بذلك طماعون مغامرون ولا شيء غير ذلك. هل هذا كلام يا دكتور جمعة؟

لا يوجد أحد من العقلاء يمكن أن يقول عن هؤلاء الشباب إنهم شهداء، وليس مطلوبا أبدا أن يقال عنهم شيء من ذلك، وهؤلاء الشباب وأهاليهم لم يطلبوا من أحد أن يمنحهم صفة الشهداء، والحكاية ببساطة أن هؤلاء الشباب تعلموا، وبعضهم حصل على شهادات جامعية عالية جدا مثل الليسانس والبكالوريوس، ولكنهم وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل تماما، وأهاليهم غير قادرين على الإنفاق عليهم بعدما أنفقوه في تعليمهم، وبالتفكير العاقل فإن حالة شاب في قمة حيويته يجد نفسه عاجزا عن العمل والحصول على سكن أو على أي شيء من متطلبات حياته، مثل هذا الشاب إنما يعيش في جحيم يتعذب فيه بالليل والنهار، إذ أنه يعيش على هامش الحياة دون أن يلقى الاحترام من أحد، وليس عليه إلا أن يصحو كل يوم على حياة جافة وعيش مر ونظرات احتقار، إن ارتقت فإنها تتحول إلى نظرات عطف وإشفاق ممن لا يملكون تقديم عون حقيقي لهؤلاء الشباب، فكيف يا دكتور جمعة ترمي هؤلاء الشباب الغلابة بأنهم طماعون، وكيف توجه اللوم إليهم، وعلى أي شيء تلومهم، وكل ما فعلوه هو محاولة الخروج من الجحيم الذي يعيشون فيه؟، لقد كان الأولى بك يا دكتور جمعة أن تمد نظرك إلى أبعد لتعرف، وأنت العارف، أن المحنة اسمها laquo;البطالةraquo;، وأن المسؤولية في هذه المحنة تقع على المجتمع كله، ولا تقع على هؤلاء الشبان المساكين، والشعار الذي يجب أن نرفعه الآن هو laquo;حاربوا البطالة بشتى الوسائل والأساليب قبل أن يغرق المجتمع كله وليس بعض شبابه فقطraquo;