خالد الدخيل


آخر شروط إسرائيل للعودة إلى مفاوضات quot;السلامquot; مع الفلسطينيين هو اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بأن إسرائيل هي quot;دولة يهوديةquot;. يوم الأحد الماضي خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، ليعلن لأول مرة بـquot;أننا لن ندخل في أية مفاوضات حول وجودنا كدولة يهودية. هذا منطلق لكل المفاوضات القادمةquot;، ثم أضاف، حسب صحيفة quot;هآرتسquot; الإسرائيلية؛ quot;كل من لا يعترف بذلك لا يمكنه التفاوض معناquot;! هذا ليس اشتراطاً، وإنما عملية إملاء علنية على الطرف الفلسطيني. قال أولمرت ذلك في معرض حديثه عن المفاوضات مع الفلسطينيين حول مؤتمر آنابوليس quot;للسلامquot; المزمع عقده في الولايات المتحدة. ما معنى ذلك؟ هل أن أولمرت يبحث عن موقف يعزز من خلاله وضعه السياسي المتدهور محلياً؟ أم أن هذا التصريح يمثل موقفاً إسرائيلياً قديماً، ولكن إطلاقه كشرط للتفاوض مع الفلسطينيين، كان مؤجلاً، وينتظر لحظته التاريخية المناسبة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما معنى الاعتراف بـquot;يهودية الدولة الإسرائيليةquot; بالنسبة للعرب وحقوقهم التاريخية في فلسطين؟ لماذا لم يطرح الإسرائيليون هذا الشرط إلا الآن؟

كانت الطبقة الحاكمة الإسرائيلية ولا زالت تعتبر أن الدولة التي أقامتها بقوة السلاح على أرض فلسطين عام 1948 هي دولة يهودية، ودولة لليهود فقط. لكن هذه الهوية الدينية للدولة بقيت قناعة إسرائيلية داخلية، ولم تطرح من قبل كجزء من الخطاب الإسرائيلي للعالم، أو كجزء من المفاوضات مع العرب، وهي مفاوضات بدأت بشكل سري حتى قبل زيارة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات للقدس المحتلة عام 1977. ما يعني أن الإسرائيليون انتظروا أكثر من أربعين سنة تقريباً قبل أن يعلنوا هذا الشرط. لاحظ هنا أن إسرائيل انتقلت، أو هكذا هي قناعة قيادتها السياسية، من مرحلة المطالبة بشرعية وجودها كدولة، إلى مرحلة أصبحت فيها تضع شروطاً صارمة للعرب الذين يريدون الاعتراف بهذه الدولة.

لم يطرح الإسرائيليون شرط الاعتراف العربي المكتوب بيهودية الدولة الإسرائيلية إلا الآن! شيء لافت حقاً. حتى هذا الأسبوع كان المطلب هو مجرد الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. بعد أن اطمأن الإسرائيليون إلى أن العرب تجاوزوا هذه العقبة، حيث منهم من اعترف وطبّع، ومنهم من أعلن استعداده لفعل ذلك، حان وقت الاشتراط على العرب بأن اعترافهم بإسرائيل هو اعتراف ناقص، وبالتالي لن يكون مكتملاً من دون الاعتراف بالهوية الدينية لهذه الدولة التي اعترفوا بمشروعية حقها في الوجود ابتداءً. وأمام اعتراض العرب على مثل هذا المطلب -الشرط الجديد، يفرض السؤال نفسه على هؤلاء بشكل طبيعي: ما هو الفرق في نهاية الأمر بين الاعتراف بإسرائيل وبين الاعتراف بهويتها اليهودية؟
كانت إسرائيل، ولا تزال، تصر في مفاوضاتها مع الأطراف العربية على أمرين: رفض وقف الاستيطان، ورفض تحديد سقف زمني للمفاوضات.

من المعروف أن سؤال الهوية اليهودية بشكل عام، أو من هو اليهودي؟ هو بحد ذاته سؤال مثير للجدل بين اليهود والإسرائيليين أنفسهم. ولا شك في أن دلالة هذا السؤال، ودلالة الإجابة عليه مهما كانت هذه الإجابة ينسحب على هوية الدولة الإسرائيلية، كما يراها الإسرائيليون. لكن هذا سؤال يخص اليهود دون سواهم. ما يهم العرب سؤال آخر: ما معنى الاعتراف بالهوية اليهودية لدولة إسرائيل؟ وكيف يختلف ذلك عن وصفهم لها بأنها مثلاً quot;دولة عبريةquot;؟ أو حتى quot;دولة يهوديةquot;؟ أليس في الوصف الأخير اعتراف ضمني بالهوية اليهودية لهذه الدولة؟ نبدأ بالسؤال الأول.

اعتراف العرب بالهوية اليهودية لدولة إسرائيل يقتضي بالضرورة أن يحدد لنا الإسرائيليون أولاً وقبل كل شيء: ما معنى quot;الهوية اليهودية بالنسبة لهمquot;؟ هل هي هوية دينية حسب رؤية ما يعرف بطائفة الأرثوذوكس اليهود، مثلاً؟ أم أن المقصود بهذه الهوية هو المعنى القومي العلماني للدولة الحديثة؟ وبالتالي يكون معنى الشعب اليهودي في هذه الحالة هو الشعب الذي ينتمي إلى القومية اليهودية، ولغته العبرية، والدين اليهودي مجرد عنصر ثقافي من مكونات هويته القومية. حسب هذا المعنى يجب أن تكون إسرائيل دولة وطنية علمانية، وليست دولة دينية.

وبما أن الإسرائيليين يقولون بأن دولتهم هي دولة ديمقراطية، فإنها يجب أن تلغي quot;قانون العودةquot; الذي يعطي الحق لليهودي في أي مكان من العالم، ولليهودي فقط، بالحصول على الجنسية الإسرائيلية بمجرد quot;عودتهquot; إلى هذه الدولة. من غير المنطقي القول من ناحية بأن إسرائيل دولة ديموراطية، وفي الوقت نفسه الإصرار على أن هوية هذه الدولة هي هوية يهودية بالمعنى الديني. من دون تحقيق هذا الشرط يكون الاعتراف العربي، والفلسطيني تحديداً، بالهوية اليهودية لإسرائيل مفتوحاً على احتمالات سياسية خطيرة. يأتي في مقدمة هذه المخاطر ما يعرفه الفلسطينيون قبل غيرهم، وهو أن هذا الاعتراف يعني، وبجرة قلم إسقاط حق العودة بالنسبة لفلسطينيي الشتات، وهم الفلسطينيون الذين طردتهم إسرائيل من أرضهم إبان قيامها، واستولت على هذه الأرض بقوة السلاح، وقوة الأمر الواقع فقط.

الاعتراف العربي، والفلسطيني تحديداً، بالهوية اليهودية لإسرائيل، هكذا من دون شروط، ومن دون الاتفاق على المعنى القانوني والسياسي لهذه الهوية، يعني أنه يحق لإسرائيل أن تقول لنا بعد ذلك quot;هذه دولة يهودية، وبالتالي لا يجوز لأحد أن يستوطنها ما لم ينتم إلى الديانة اليهوديةquot;. وهذا في الواقع ما درجت إسرائيل عليه منذ قيامها. لكن اعتراف العرب ليس فقط بحق هذه الدولة في الوجود، بل وبشرعية وجودها quot;كدولة يهوديةquot; هكذا بشكل مفتوح، يعني رأساً إسقاط حق العودة، وسحب أي أساس تاريخي وقانوني للقرار الدولي 194. وبما أن الديانة اليهودية هي ديانة مغلقة، على عكس المسيحية والإسلام، سوف يوفر الاعتراف الفلسطيني بالهوية اليهودية لإسرائيل مشروعية قانونية في أن تتبنى إسرائيل سياسة قصر المواطنة فيها على من يحمل الهوية الدينية اليهودية دون غيره. وبهذا المعنى سيجد عرب الـ48 في إسرائيل أنفسهم أمام سياسات وتشريعات إسرائيلية جديدة تضعهم في موقف أسوأ وأصعب كثيراً مما هم فيه حالياً. بعض هؤلاء العرب مسلمون، وبعضهم مسيحيون، ولك أن تتصور مستقبل هؤلاء في دولة دينية عنصرية، وقد تم الاعتراف العربي والدولي بهويتها الدينية والعنصرية هذه.

بعض الإسرائيليين يقولون بأن quot;يهودية إسرائيلquot; لا تعني هوية دينية للدولة، وإنما مجرد هوية قومية، وبالتالي هوية علمانية في نهاية المطاف. لكن هؤلاء لا يمثلون إلا أقلية صغيرة، خصوصاً في مراكز صناعة القرار. البعض الآخر من الإسرائيليين، وهم الأغلبية، يعترف ويقر بشكل واضح ومباشر بأن هذا الشرط هو مطلب للاعتراف بالهوية الدينية لدولة إسرائيل، ويدافعون عن ذلك بحماس شديد. أحد هؤلاء هو صاحب مدونة quot;مكان خاص في الجحيمquot; في صحيفة quot;هآرتسquot; الإسرائيلية. اسم هذا الكاتب quot;برادلي بيرستونquot;. انزعج بيرستون كثيراً من رفض كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، الاعتراف بأن إسرائيل quot;دولة يهوديةquot;. كان منطلق عريقات في موقفه هذا، كما نقله بيرستون، هو أنه quot;ليس هناك دولة في العالم تربط هويتها الوطنية بهوية دينيةquot;. وكان عريقات محقاً في ذلك. الاستثناء الوحيد هنا هو دولة الفاتيكان. لكن الكاتب الإسرائيلي لم يتطرق إلى ذلك، لأنه يعرف دلالة المقارنة مع هذه الدولة الثيوقراطية، ويعرف أنها مجرد مؤسسة دينية تمثل الكاثوليك في العالم روحياً، لكن من دون أن يكون لها حق تمثيلهم سياسياً. وفي الأخير لم يجد بيرستون ما يبرر به مطلب الاعتراف بالهوية اليهودية لإسرائيل إلا التهديد والوعيد استناداً، مرة أخرى، إلى القوة العسكرية. فإما الاعتراف، أو لن تكون هناك دولة للفلسطينيين.

وهذا يفسر حقيقة الهدف وراء الشرط الإسرائيلي الجديد. لم تكن إسرائيل يوماً جادة في تحقيق السلام في المنطقة قبل أن تحقق هدفها الاستراتيجي بالاستيلاء على الضفة الغربية. كانت دائماً تستخدم ما يعرف بـquot;عملية السلامquot; كغطاء لسياسة الاستيطان، وهي سياسة لم تتوقف مع أي اتفاق تتوصل إليه مع أي طرف عربي. والشرط الأخير ليس إلا أسلوباً جديداً للممانعة في تحقيق السلام. كانت ولا تزال إسرائيل تصر في كل مفاوضاتها مع الأطراف العربية على أمرين: رفض وقف أو تجميد الاستيطان، ورفض تحديد هدف نهائي، أو سقف زمني للمفاوضات. ولن تقبل أيا من ذلك قبل تحقيق الاستيلاء على الأرض. شرط الاعتراف العربي بالهوية اليهودية لإسرائيل هو محاولة جديدة للحصول على غطاء سياسي عربي للسياسة نفسها. وإذا رفض العرب ذلك، فلن تخسر إسرائيل كثيراً. بل ستكون نجحت في إفراغ مؤتمر آنابوليس من أي مضمون أو هدف عملي، وهو مؤتمر فارغ من أساسه، وسوف تستخدمه كآلية جديدة لوقف أو تجميد المفاوضات كما فعلت طوال الثلاثين سنة الماضية.