الأربعاء 7 فبراير 2007

عاطف الغمري

الرئيس بوش ينبئنا بفوضى إقليمية، والحديث كثير هذه الأيام عن الفوضى التي تهدد بأن تتفشى في العالم العربي، وتناولتها دراسات وتقارير سياسية أمريكية تتابع أحداث المنطقة، وترصد شواهد ونذر حروب أهلية في العراق، وفلسطين ولبنان، آخرها تقويم لأجهزة المخابرات الأمريكية.

وما تحدث فيه الرئيس بوش في خطابه في العاشر من يناير/كانون الثاني الماضي الذي احتل الشرق الأوسط المساحة الأكبر منه، كان تحذيرا من أن حربا أهلية في العراق ستؤدي إلى امتداد الفوضى إلى المنطقة كلها.

ومن داخل العراق صدر عن المجلس العراقي للسلم والتضامن تقرير يخلو من أي لمحة تفاؤل، يقرر أن الوضع في العراق سيتفاقم لسنوات مقبلة، ما لم يتبلور مشروع وطني عراقي تلتزم به الأطراف السياسية كافة، وتهيئ الأرضية المناسبة لوقف العنف، ومن ثم خروج القوات الأجنبية، وأن ذلك يستلزم موقفا عربيا بالدرجة الأولى، مسانداً للعملية السياسية في العراق.

وإذا كانت النظرة غالبة في أن الفوضى الإقليمية احتمال قائم، فماذا فعلت الدول العربية، لتصد عن شعوبها أخطارا قد تحدث حتى ولو كانت للآن مجرد احتمال؟ وهل جهزت نفسها بموقف عربي تنتقل به من حالة انتظار تصاريف القدر، إلى امتلاك إرادة وطنية تستوعبها استراتيجية أمن قومي؟

أم أن هذا الغياب لأي فكر استراتيجي أو مشروع قومي، سيستمر، بينما مجالهم العربي أصبح ميدان حركة وعمل استراتيجيات الآخرين، وهي استراتيجيات تعبر عن مصالح الأمن القومي لهؤلاء الآخرين، وهي نفسها التي غرست في أرضهم بذور الفوضى المحتملة.

ثم يظهر عليهم وكأنهم فوجئوا بتصاعد الدور الإيراني، داخل نطاق عمل النظام الإقليمي العربي، كأن ذلك وجد بين يوم وليلة، بينما الجسد العربي تنتشر فيه الثغرات الاستراتيجية التي تغري أيا من كان على النفاذ منها دون عائق.

إن هذا التصاعد للدور الإيراني في مساحات تخص قضايا عربية، هو جزء من استراتيجية إيرانية ظهرت بوادرها منذ سنوات ليست قليلة، ولا خلاف على أن لإيران طموحات تتجاوز حدودها الجغرافية، وضعت لها استراتيجية عمل، مثلها مثل دول إقليمية أخرى تتداخل وتتقاطع مصالحها الحيوية، مع مصالح الأمن القومي للدول العربية كrdquo;إسرائيلrdquo; وتركيا. هذا بخلاف القوى الخارجية التي صنعت لنفسها وجودا عسكريا وسياسيا داخل الوطن العربي كالولايات المتحدة. ولا أحد يلوم هذه الدول على ما تفعله، فصياغة الاستراتيجية التي تحمي مصالح شعوبها وتحقق لها طموحاتها خارج حدودها إقليميا ودوليا، هو سلوك طبيعي في إطار عمل السياسة الخارجية، وتقع على قمة مسؤوليات أي نظام حكم.

وهي نفسها المسؤوليات التي كان يفترض أن تحتم وجود استراتيجية عربية، تتعامل مع استراتيجيات الآخرين، وتكون في الوقت نفسه حائط صد في مواجهة اقتحامها مجالهم الوطني، ولا تترك هذا المجال فراغا استراتيجيا، يدير هؤلاء مصالحهم في داخله، إلى الدرجة التي يصبح لهم فيها دور محوري في قضايا العرب، وفي أزماتهم الملتهبة حاليا في العراق، ولبنان، وفلسطين.

وقبل أن تلوموا إيران، لوموا أنفسكم على أنكم تركتم داركم مفتوحة الأبواب، بل وأكثر من ذلك منزوعة الأبواب.

حتى لقد قفز هذا السؤال: وأين النظام الإقليمي العربي القائم منذ منتصف الأربعينات؟ أي منذ ستين عاما طوالا. وهل وفروا له أركان النظام الإقليمي؟ ولا أحد يلقي باللوم على الجامعة العربية التي تجسد هذا النظام الإقليمي، ولكن اللوم على غياب أي فكر استراتيجي عربي، وعلى هذا الاستسلام لحلول آخرين محل العرب في لعب دورهم، وصناعة القرار في ما يخصهم، وما يمس مصالحهم، وغياب آليات التعامل مع نذر حروب أهلية، وتحذيرات من فوضى إقليمية، تصنعها أيد لها مصلحة في تمزيق المجتمعات، وطمس الهوية الوطنية لدولها، لتتحول إلى هويات متناثرة متنافرة. وهو ما ظهرت نذره في الاقتتال الداخلي بين فرقاء الوطن الواحد، والقضية الواحدة، مع الاعتراف بحلول الهويات الطائفية المتعصبة والميليشيات محل الدولة الضعيفة.

إن الخطاب الأخير للرئيس بوش جاء محملا بما يثير المخاوف مما هو قادم، بعد القول ldquo;إننا مازلنا في حالة حرب، ووصفه الحرب على الإرهاب بأنها صراع أجيال سيتواصل حتى بعد أن نسلم أنا وأنتم مهام مناصبنا لآخرينrdquo;.

وتأتي هذه التوقعات لحروب مستمرة في مواجهة تقرير لجنة بيكر هاملتون، الذي أوصى باستراتيجية سياسية لإخراج أمريكا من مأزقها في العراق، بينما جاءت خطة بوش اللاحقة على هذا التقرير تصعيدا عسكريا، رافضا التوصيات السياسية التي أكدت الارتباط القائم بين كل أزمات المنطقة، وفي مركزيتها المشكلة الفلسطينية، والنزاع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo;.

وجاء موقف بوش بالرغم من تقارير أجهزة المخابرات الأمريكية التي أقرت بأن الاحتلال هو الذي حول العراق إلى أرض مفتوحة للإرهاب، وضاعف النشاط الإرهابي في العراق وفي العالم ثلاث مرات. وكل ذلك اسهم في نشر الفوضى في العراق.

وإذا كان الحديث مركزا الآن على الفوضى الإقليمية، فإن ذلك لم يكن أمرا غائبا عن المتابعين لأحداث العراق، الذي تناولته دراسات صدرت في الولايات المتحدة، تنبه إلى أن الفوضى الداخلية في العراق، تهدد بتجاوز حدوده إلى مساحات أوسع في المنطقة.

ومن البداية كانت الشواهد ترجح أن هذه الفوضى لم تكن عفوية بل متعمدة، يشهد عليها هدم سلطات الاحتلال مؤسسات الدولة، وحل الجيش العراقي وتسريحه، ونسف إدارات تسجيل الهويات في بغداد، وهو ما فتح الباب لدخول أي من كانت جنسياتهم وبينهم متسللون ldquo;إسرائيليونrdquo;، والكل يطلب إعادة تسجيل هويته المفقودة (عمدا)، ويوجدون داخل العراق، مشاركين في أي أحداث مطلوبة من الجهات التي ينتمون إليها، حتى لو كان القتل الجماعي للمدنيين، وتوسيع الهوة الطائفية ونشر الفوضى.

وكانت مجلة ldquo;تايمrdquo; الأمريكية قد نشرت تقريرا يؤكد أن الفوضى كانت متعمدة، ذكرت فيه عدم صحة ما قيل من أن وزارة الدفاع الأمريكية وضعت خطة غزو العراق، لكنها أغفلت وضع خطة لما بعد الغزو، وأن الحقيقة أن وزارة الخارجية سلمت البنتاجون خطة تفصيلية لإدارة العراق بعد الغزو، لكن البنتاجون تجاهلتها ورفضت العمل بها، ومن هنا نبتت بذور الفوضى في العراق.

إن استراتيجية الحرب على الإرهاب التي تعتبر العراق خطها الأمامي، ومركز عملياتها، هي حسب توصيف عسكريين أمريكيين تعني حروبا بلا نهاية، تنتقل بلا توقف من حرب هنا إلى حرب هناك، مادامت وضعت للإرهاب تعريفا غير متوازن يركز على ما هو ظاهر على السطح وفي حدود ضيقة، من نشاط جماعات وعناصر إرهاب، وفي تجاهل تام للأسباب السياسية التي تهيئ الفرصة للإرهاب ليوجد وينشط، ومنها سياسة الاحتلال، وأيضا التحيز الأمريكي المطلق لrdquo;إسرائيلrdquo;، على حساب حل النزاع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; بتسوية سلمية متوازنة.

إن الدول التي تملك استراتيجية أمن قومي، لا تتعامل مع ما يهدد مصالحها على أساس ما هو قائم وموجود فقط، لكن أيضا ما هو محتمل، وإذا كانت الفوضى المهددة للدول العربية هي احتمال حتى الآن، فما الذي فعلته الدول العربية للتعامل معها؟