منتصر الزيات

جرزان كانت تتخفي في جحورها سنوات طويلة، بدأت تطل بصوت خافت ربما يتحسس طريقه لدوائر صناعة القرار، ودوائر الاعلام، يتحدث عن تعديل المادة الثانية من الدستور تلك التي تتعلق بتحديد هوية الأمة ونسقها الحضاري رغم أنه ليس مطروحا للتعديل ضمن المواد المطروحة للتعديل يا سبحان الله.

تحدث أيضا الناطق الرسمي باسم الكنيسة الكاثوليكية بالقاهرة - لا فض فوه ولا تهشمت أسنانه - عن مطالبات الأقباط بضرورة إعادة النظر في المادة الثانية وصدق الله (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)، وطالب هذا الناطق بحق الشريعة المسيحية أن تصبح لها مادة في الدستور!!. هذا الحديث حديث طائفي والبون شاسع جدا بين الطائقية والمواطنة، حديث الحصص والوزارات وأن يكون للمسيحيين وزير للتعليم ورئيس جامعة مسيحي أو وزير الداخلية وهلم جرا، المطالبة بنسبة للأقباط في المجالس المحلية أو البرلمانية أو بالوزارات هو بالتأكيد حديث طائفي، المواطنة تعني المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين المواطنين، وأن يكون المسيحيون أو اليهود المصريون شركاء في الوطن وهو أمر يختلف عن الطائفية.دعوني أقول أولا أن هذه الفوبيا لم تكن لتكون لولا الشعور بالاستقواء بالولايات المتحدة الامريكية والغرب في هذه الفترة التي تشهد تراجعا في موقف النظام العربي الرسمي، والضغوط التي تمارسها الحكومات العربية علي الحركات الاسلامية، وشغلها بمطاردات ومداهمات شغلتها عن مهمتها الأساسية باعتبارها طائفة تنويرية تثويرية في طليعة الأمة ضد الفساد والاستبداد.

وقت أن كانت الصحوة الاسلامية تنتشر في كل أنحاء مصر في الربوع والنجوع والمراكز والمدن، لم تكن لتصدر مثل هذه الدعوات النشاز. بل تبدو مدي ضغوط الأمة ولهفتها في جعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع من الطريقة التي اتبعها الرئيس الراحل أنور السادات في تعديل المادة 77 حينما سول له بعض المنافقين بقاءه رئيسا مدي الحياة فطرح للاستفتاء علي الشعب تعديل المادة الثانية من الدستور لتكون الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والمادة 77 بإطلاق مدد انتخاب رئيس الدولة.وقد بلغت الحماقة بنفر الاعلان عن حملة توقيعات مليون توقيع للمطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور، قابلها عزم أكيد بحملة مضادة لعشرة ملايين توقيع تطالب بتأكيد النص وتكريسه.يا عالم، مصر قوية بقدر رسوخ النسق الحضاري للإسلام، التي تحتض بين دفتيه بتسامح عميق وحقيقي وشراكة ومواطنة وتاريخ بين أبنائها، إننا نحتاج إلي أقوال خالدة لعقلاء المسيحية الذين يعتبرون أن مصر وطن يعيشون فيه لا مجرد وطن يعيشون فيه.

لا ننكر أننا أيضا ربما نحتاج إلي شجاعة أكثر في معالجة مشكلات تعرض في صميم العلاقة بين المسلمين والأقباط، وأن أغلبية المسلمين تفرض عليهم تشجيع شركائهم من المسيحيين في العمل السياسي أو النقابي أو الجماهيري كمواطنين علي أساس الكفاءة باعتبارها المعيار الوحيد لشغل الوظائف أو المناصب النقابية ومن ثم تتحول مشاركة الأقباط إلي لون من ألوان المشاركة والمواطنة بديلا عن الحصص والكوتا التي تستدعي الطائفية من أوسع أبوابها أو الموالاة لمرشح قبطي في أي انتخابات عامة أو نقابية وتكون النتيجة الطبيعية هي سقوط المرشح القبطي الذي تكتل له المسيحيون ثم يعودون للحديث عن مشكلات الانتخابات والقوائم التي منعتهم من التمثيل سواء في مجلس الشعب أو في النقابات المهنية، في حين أنهم اختاروا بداية التكتل والانغلاق لحساب مرشحهم فقط دون غيره، ومن نافلة القول التذكير أن الأمان الحقيقي للأقباط إنما في اندماجهم في نسيج الجماعة الوطنية المصرية.

أبو عمر المصري: واجه أبو عمر المصري إمام مسجد ميلانو مأزقا صعبا وهو يتعرض لجريمة غير انسانية تماما باختطافه في وضح النهار بينما يسير علي قدميه من بيته إلي مسجده الذي يؤم المصلين فيه ويقدم الوعظ والارشاد، فيجد نفسه فجأة في القاهرة!! أربع سنوات قضاها أبو عمر في المعتقل يقاسي ويلات وشرور، وحرمان وعزلة عرضته لاكتئاب دفعه لمحاولة الانتحار ثلاث مرات لولا عناية الله. أن يبقي المرء داخل المعتقل بلا جريمة أو اتهام سنوات شيء صعب غير يسير.

التقيت أبو عمر في بيته الجديد بالاسكندرية الخميس الماضي فوجدته في حالة مزاجية ونفسية مستقرة وطيبة مقبل علي الحياة مفعم بها، ممتنا لأسرته التي تحملت كل الأوضاع السيئة طيلة سنوات أربع خلت مستسلما لرغبتهم البقاء معه فترة أطول بعيدا عن الضجيج والضوضاء ومتاعب السياسة، غير انه أوضح لي في مقابلته الاخيرة أنه لم يتخل عن رغبته السفر إلي إيطاليا كما كان يعلن من قبل، بل علي العكس لقد زادته الازمة رغبة واصرارا في ضرورة العودة إليها ولو كلفه ذلك القبض عليه هناك ومحاكمته فهو يحمل حبا لايطاليا أفرزته تجربته في الاستقرار الذي لم يشعر به إلا هناك بعد مطاردات دفعته إلي الخروج من مصر عام 90 ثم فراره من الخطف في البانيا عام 97 وتنقله بين ألمانيا وإيطاليا حتي استقر بها وتزوج هناك ورزق بأولاده، فهو يحب حياته الطبيعية الآمنة هناك قبل أن يحب أي شئ آخر، لكنه ممنوع من السفر رغما عن أنفه تحينا لظروف قد تجد تمنحه الحق في السفر.

أبو عمر يقبع بالاسكندرية مريضا، منكسرا، بلا عمل أو قدرة عليه فالأمراض أحاطت به من كل جانب، عموده الفقري يمنعه من القدرة علي الحركة بشكل طبيعي، واستعماله لسماعتين يمكنانه من التقاط الاصوات، بقيت بجانبه قرابة ثلاث ساعات أو يزيد قليلا عدت أدراجي من الاسكندرية محوقلا ولله في خلقه شجون.