عبد الباري عطوان


نفهم ان تلتقي السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية بنظرائها وزراء خارجية دول حلف المعتدلين أو حتي قادة هذه الدول، ولكن ان تجتمع مع رؤساء اجهزة امن ومخابرات اربع منها مباشرة فهذا امر يبعث علي الحيرة والقلق معاً.
فالقواعد المتعارف عليها في العلاقات الدولية هي ان يلتقي الحلفاء علي مستوي القمم او وزراء الخارجية، ويتفقوا علي خطوات امنية او سياسية معينة، ويتم بعد ذلك قيام هؤلاء باصدار التعليمات الي قادة الأجهزة الأمنية في بلادهم من اجل اجراء اللازم، ولكن ان تهمل السيدة رايس هذه التقاليد والاعراف، وتلتقي بقادة الأجهزة الأمنية في السعودية ومصر والاردن والامارات مباشرة فهذه ظاهرة غير مسبوقة، وتكشف ان اجهزة الاستخبارات والامن العربية باتت مرتبطة بشكل مباشر بالادارة الامريكية.
ومما يثير الاستغراب، محاولة السيدة رايس وادارتها استغبائنا كعرب، والتعامل معنا كأننا اطفال رضع، عندما قال احد مساعديها ان الغرض من هذا الاجتماع هو بحث تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. اي ان المجتمعين يبدون حرصاً علي القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ويريدون تشكيل حكومتهم بأسرع وقت ممكن.
الاجتماع لم تكن له أي علاقة بالقضية الفلسطينية، وإنما بالتحضيرات الامريكية الحالية لضرب ايران، وتعميق الفتنة الطائفية، وتصعيد العداء بين الشيعة والسنة. وإذا كانت هناك علاقة فعلية لهذا الاجتماع بحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، فهي في كيفية افشالها، أو الضغط علي حركة حماس للتجاوب مع الشروط الامريكية ـ الاسرائيلية بالاعتراف بالدولة العبرية، ونبذ الارهاب والالتزام باتفاقات اوسلو.
ان اختيار قادة مخابرات هذه الدول الأربع من بين ثماني دول هي مجموعة دول حلف المعتدلين يوحي بانها، اي الدول الاربع، ستكون نقطة الارتكاز الرئيسية في الاستراتيجية الامريكية العسكرية ضد ايران في حالة اللجوء الي الخيار العسكري لتدمير البرنامج النووي الايراني وكبح جماح حلفاء ايران في العراق وربما انهائهم.
الادارة الامريكية نجحت في تحويل العراق الي منصة لتصدير الفتنة والحروب الطائفية الي دول الجوار، ومن المؤسف ان حكام العراق الجديد قد لعبوا دوراً كبيراً في انجاح هذا المشروع الجهنمي عندما سقطوا في مصيدة الطائفية، وأقاموا فرق الموت والميليشيات المذهبية، وتصرفوا بعقلية الانتقام والثأر والأحقاد الدفينة.
فلم يكن من قبيل الصدفة ان تغض القوات الامريكية النظر، وعلي مدي السنوات الاربع الماضية من عمر الاحتلال عن فرق الموت وجرائمها، والميليشيات الطائفية وتجاوزاتها ومجازرها، والاختراقات التي نجحت في تحقيقها لقوات الامن والحرس الوطني. كما انه لم يكن من قبيل الصدفة ايضاً ان تسلم الادارة الامريكية الرئيس صدام حسين الي هذه الحكومة الطائفية لتنفيذ حكم الاعدام بالصورة المخجلة والمهينة التي شاهدناها وفي يوم عيد الاضحي المبارك.
هناك جهات تخطط لتعميق هذه الفتنة الطائفية وصب الزيت علي نارها، لتزداد اشتعالاً، وتوظف خبرات عريقة في هذا الاطار، تفهم جيداً النفسية العربية، وتدرك بوعي وخبث كيف تلعب علي الوتر الطائفي، والنتائج الكارثية المترتبة علي ذلك.
وكان المأمول ان تدرك ايران الدولة، وادمغتها السياسية المشهود لها بالذكاء ابعاد هذا المشروع الامريكي، وتضع استراتيجية مضادة له، ابرز اسسها كبح جماح الاحقاد الطائفية لحلفائها في العراق الجديد ، ودفعهم للتعامل بصورة اكثر عقلانية مع اشقائهم من الطوائف والاعراق الاخري، ولكنها للأسف لم تفعل، بل تعاملت بمنطق المنتصر المتشفي الشامت، الامر الذي انعكس سلباً علي مكانتها في العالم الاسلامي.
ففي ظل نشوة الاحتفال بسقوط نظام البعث في العراق علي ايدي الغزاة الامريكيين ممثلي الشيطان الاكبر ، نسي الاشقاء في ايران حقيقة اساسية، وهي ان الشيعة قد يكونون اغلبية في العراق، ولكنهم يظلون اقلية علي مستوي العالم الاسلامي، وهي المعادلة التي التقطها مروجو الفتنة الطائفية في الادارة الامريكية، ويريدون استخدامها بفاعلية ضد ايران، وحلفائها في العراق الجديد .
حالة الاستقطاب الطائفي دخلت مرحلة اكثر خطورة في الايام الاخيرة، لأنها لم تعد مقصورة علي الجوار العربي للعراق، وانما الي الجوار الاسلامي لايران ايضاً. بحيث تصبح ايران محاصرة بالمربع او المثمن السني وفقاً للمخطط الامريكي الأحدث، تحت ذريعة خطر طموحاتها النووية علي المنطقة.
فالاستعدادات تتواصل الآن علي قدم وساق لتوسيع نطاق تحالف المعتدلين العرب، بحيث يصبح تحالف المعتدلين السني الاسلامي. فقد تبين ان جولة الرئيس الباكستاني مشرف الاخيرة في عدة عواصم اسلامية تسعي من اجل وضع اسس هذا التحالف الجديد، حيث من المقرر ان تستضيف اسلام آباد يوم الاحد المقبل اجتماعاً لوزراء خارجية سبع دول اسلامية كبري هي مصر والمملكة العربية السعودية والاردن وتركيا وماليزيا واندونيسيا للبحث في قضايا تهم العالم الاسلامي وعلي رأسها القضية الفلسطينية. ومن المقرر ان يعد وزراء خارجية هذه الدول لقمة لرؤساء دولهم في مكة المكرمة بعد ايام معدودة.
فإذا كان هذا التحالف الاسلامي الجديد الذي يضم الدول السنية ذات الوزن الثقيل يهدف الي بحث القضية الفلسطينية، فلماذا لم توجه الدعوة الي سورية الدولة العربية التي ضحت كثيراً من اجل هذه القضية، وتتعرض اراضيها للاحتلال حتي هذه اللحظة من قبل اسرائيل؟
ثم ماذا عن ايران، أليست دولة اسلامية يهمها حل القضية الفلسطينية ايضاً، ام ان وراء الأكمة ما وراءها، مثل القول بأن الاسلام السني هو وحده الحريص علي هذه القضية، اما الاسلام الآخر فهو غير معني بها؟
ويظل سؤال آخر يطرح نفسه بإلحاح هو عن اسباب هذا الحماس المفاجئ لدي الدول السنية الاسلامية الرئيسية، تجاه القضية الفلسطينية وتوقيته، فلماذا لم تجتمع هذه الدول قبل عامين مثلاً، أو عشرة، وبالتحديد قبل بروز القلق الامريكي من البرنامج النووي الايراني؟
اننا نخشي ان نكون امام خديعة جديدة، تماماً مثل خديعة اسلحة الدمار الشامل العراقية، وتهديد نظام الرئيس الراحل صدام حسين لدول الجوار، وهي الخديعة التي ادت الي الغزو والاحتلال وخسارتنا العراق، وغرقنا في الحرب الطائفية والتطورات المؤسفة التي تشهدها المنطقة حالياً.
بات المطلوب امريكيا الدخول في حرب جديدة ثانية ضد ايران وربما سورية، بعد الحرب الاولي ضد العراق، بغض النظر عن النتائج الكارثية لهذه الحرب علي المنطقة، ابتداءً من مقتل مئات الآلاف من الابرياء وانتهاءً بالتلوث النووي الناجم عن استخدام اسلحة نووية او تدمير منشآت النفط الايرانية.
فإذا كانت هذه الدول السنية الاسلامية علي هذه الدرجة من الحرص علي الشعب الفلسطيني، فلماذا تسكت علي الحصار التجويعي الذي تمارسه واشنطن ضد هذا الشعب لأكثر من عام، ولا تتدخل من اجل وقف الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة عليه والتي تحصد ارواح الابرياء يومياً؟
فالسيد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا فاجأنا امس بتحذير مباشر الي ايران وسورية بالعزلة اذا لم تشجعا نشر الديمقراطية في المنطقة، وينسي السيد بلير الشريك الاكبر في المشروع الامريكي الطائفي، ان جميع دول تحالف المعتدلين العرب الذي يرعاه حليفه بوش تحكم بأنظمة دكتاتورية، مثلما ينسي ايضاً انها المرة الاولي في التاريخ الذي يحاصر فيها شعب ويجوع بسبب خياره الديمقراطي، وانتخابه ممثليه بالاقتراع الحر، ونحن نتحدث هنا عن الشعب الفلسطيني.
انها لعبة امم جديدة، سيكون العرب والمسلمون هم الخاسر الاكبر فيها، مع فارق وحيد وهو ان الادارة الامريكية والدول الداعمة لها لن تخرج منها منتصرة.