علاء اللامي

مبكرا جدا، حذر القليلون ومن بينهم كاتب هذه السطور، من إمكانية وقوع صدام دموي مرير بين المجموعات المسلحة الجهادية الوافدة والمجتمعات الحاضنة لها في غرب وشمال العراق خصوصا. لم يكن السبب متعلقا حينها بنوع من الاستشراف المقامر بل بفهم خاص لميزات وخصوصيات المجتمع العراقي. تلك التحذيرات، أو في الأقل التوجسات المبكرة، لم تكن تتناقض مع الترحيب المبدئي الذي أبداه المحذرون أنفسهم بالمقاتلين العرب الإسلاميين فهو كان ترحيبا بديهيا بمقاييس التاريخ والتجارب الناجزة في المقاومة العالمية والعربية والتي خلالها كانت القوي الوافدة تترك علي الدوام الشأن القيادي تخطيطا وتنفيذا لأهل الدار أنفسهم، فيما تقدم هي دعمها وخبراتها المساندة لا غير. غير أن الأمور اختلفت ولما ينتهِ العام الأول من التجربة ومع الأشهر الأولي من العام الثاني برزت دلائل وسياقات عملية كثيرة أكدت الميل الواضح الذي تحول لاحقا إلي استراتيجية ثابتة يجري تنفيذها بدأب لتكون المجموعات الجهادية الوافدة وتحديدا شبكة القاعدة في بلاد الرافدين التي أسسها وقــــادها الزرقاوي هي الجسم المسلح الرئيسي والقائد والمؤسس وصـــــولا إلي إعلان ما سمي دولة العراق الإسلامية وتأمير أبو عمر البغدادي عليها، مع الإشارة إلي أن التمهيد لإعلان الإمارة المذكورة جري في الأشهر الأخيرة من حياة الزرقاوي والتي شهدت بداية التصعيد الخطير في التهجير الطائفي كما سيؤكد الجبوري وقبله آخرون ذلك.

سيكون من المفيد والضروري تخصيص حيز نقدي وتحليلي أوسع وأكثر تخصصية لبدايات وأسباب هذه الظاهرة ولنتائجها المأساوية، تلك النتائج التي لخصها أحد المتصدين لنقدها مؤخرا ومن داخل الحالة المقاومة لا من خارجها بقوله إنها قصمت ظهر الوحدة الوطنية العراقية وسيكون مفيدا أيضا وعلي درجة كبيرة من الوجوب مناقشة تداعيات وإفرازات أسلمة المقاومة العراقية تنظيميا وفكريا وسياسيا ورفع شعارات التجربة الجهادية الإسلامية ـ وهي سنية ومحافظة وبعيدة حتي عن السلفية العقلانية كما أسست لها الأشعرية شئنا أم أبينا ـ علي المقاومة وآفاقها في مجتمع منقسم طائفيا وقوميا بعمق كالمجتمع العراقي. يمكن لنا ولغرض التحريض النظري وفتح الشهية النقدية أن نطرح تساؤلا ذا مغزي يقول: كيف يمكن تفسير التناقض الكامن في الحالتين التاريخيتين التاليتين: قاد رجال دين وفقهاء ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني ولكن برنامجها ظل وحتي النهاية برنامجا وطنيا تحريريا عروبيا بعيدا عن الطائفية والسلفية، وقاد إسلاميون وعلمانيون في البعث المقاومة المعاصرة في القرن الحادي والعشرين فانتهوا بها إلي حالة تمرد محشورة طائفيا مزودة بإمارة تفتيشية سلفية تريد فرض نفسها علي سكان المنطقة قبل غيرهم فرضا؟ إنه مجرد سؤال يضيء بعض الجوانب المعتمة مما نحن بصده، ولكننا في هذا العرض سنترك الإجابة عليه لمناسبة أخري ونتوقف وحسب عند مناسبة وتفاصيل هذا النقد الذي رغم أنه جاء متأخرا لكنه أكثر وضوحا ومباشرة وغنيً بالتفاصيل التي أُنكِرَت وكُذِبت لفترة طويلة.

منذ عدة أيام تطوع السياسي العراقي والنائب المرفوع الحصانة في البرلمان مشعان الجبوري فأدلي بعدة أحاديث تلفزيونية بُثَت من قناة فضائية يملكها هي الزوراء ونشرت مواقعُ عراقيةٌ علي الانترنيت منها موقع البديل العراقي روابطَ محيلة إليها يوم أمس.
جاءت الأحاديث بهيئة رسائل مباشرة موجهة من قبل المتحدث الجبوري إلي أمير ما يسمي بدولة العراق الإسلامية الشيخ أبو عمر البغدادي، وقد وردت فيها حالات تجاوز وجرائم قتل وقمع ومصادرة قامت بها ـ بحسب الجبوري ـ كتائب تابعة لتنظيم القاعدة. وقبل أن نجيب علي التساؤل الوارد في عنوان المقالة والقائل لماذا تكلم هذا الشخص وسكت الآخرون، سنقدم مجموعة مختصرة من تلك الأحداث التي وردت في التسجيل التلفزيوني لتلك الأحاديث بغرض التوثيق أولا والاستخدام التحليلي والمحاججة لاحقا.

يتهم مشعان الجبوري كتائب تنظيم القاعدة بالتالي:

ــ قتل رموز وقيادات المقاومة والجهاد العراقيين تحت شعار: إما أن تبايع أمير دولة العراق الإسلامية أو أن تقعد أي أن تكف عن المقاومة ضد الاحتلال تحت أي عنوان أو راية أخري غير راية القاعدة.
ــ ممن قتلوا يرد اسم الشيخ عمر محمود الفلاحي إمام وخطيب جامع النزال في مدينة الفلوجة والذي قتل وهو يصعد منبر الخطابة في الجامع برصاص مسلحي القاعدة. والشيخ المذكور من مؤسسي العمل المقاوم والجهادي وصاحب مواقف شجاعة معروفة للقاصي والداني.

ــ اغتيال الشيخ مهند الغريري إمام جامع عمر بن الخطاب في الكرمة في محافظة الأنبار أحد مؤسسي مؤتمر أهل العراق والمعروف بتاريخه ومواقفه المعادية للاحتلال ودفاعه عن أهل المنطقة.
ــ ذبح السيد صدام عبيد حمود النعيمي ورمي جثته في المزبلة لأنه شتم تنظيم القاعدة في لحظة غضب في حادثة معروفة خلاصتها: لهذا الشهيد ثلاثة أشقاء في سجون الحكومة الصنيعة وله شقيق رابع يعمل في محل تجاري لتدبير حياة واحتياجات أسرتهم الكبيرة. . جاءت مجموعة مسلحة من تنظيم القاعدة ذات يوم وقصفت قوات الاحتلال انطلاقا من مكان قرب محله ثم انسحبت بسرعة وحين ردت قوات الاحتلال دمرت المحل واستشهد الأخ الرابع فحضر المجني عليه وراح يشتم القاعدة لأنهم تسببوا بمقتل أخيه وتدمير مصدر رزقهم فما كان من مسلحي القاعدة إلا أن ألقوا القبض عليه ثم ذبحوه بالطريقة البشعة التي سلفت.

ــ اختطاف وقتل د. حسيب العارف والذي ما زالت جثته مجهولة المكان حتي الآن..
ــ قتل اللواء وجيه براق وهو أحد مؤسسي العمل المقاوم ورجل معروف بمواقفه الوطنية.
ــ اغتيال الشيخ أحمد مفرج لأنه رفض القيام بعمليات مسلحة من وسط المدنيين.
ــ قتل أحد الرسل الذي كان يحمل رسالة من إحدي العشائر إلي قيادة القاعدة في قاطع بيجي /تكريت .
ــ الطلب من أحد شيوخ عرب الجبور في منطقة الدورة أن يسلم ابنه إلي القاعدة ليذبح ولهذه الواقعة الغربية قصة خلاصتها أن أحد أمراء القاعدة في منطقة الدورة كان دمويا ومستهترا يقتل ويصادر ويقمع كما يشاء ومتي يشاء حتي فاق من قتلهم بيديه الخمسين عراقيا فضجت المنطقة بالشكوي منه ومن أفعاله دون أن يفعل له قادته شيئا، فبادر ابن الشيخ المذكور وقتل ذلك الشخص عقابا له علي ما فعل بالناس. غير أن القاعدة انحازت لأميرها وطالبت الشيخ بتسليم ابنه!
ــ الاستيلاء علي أسلحة وأعتدة فصائل مسلحة من المقاومة العراقية لأنها ترفض مبايعة أبو عمر البغدادي وتنظيم القاعدة.
ــ البدء بعملية التهجير الطائفي مما أدي إلي رد فعل من المليشيات الطائفية الشيعية وتم تهجير آلاف العوائل العراقية من مناطق سكنها الأصلية الأمر الذي تسبب بمعاناة مريرة للعراقيين وأحدث شرخا اجتماعيا يصعب علاجه.
ــ اختطاف الشيخ ناجي جبارة من محافظة صلاح الدين والذي ما زال علي قيد الحياة حتي الآن.
ــ اختطاف المقاوم المعروف نامس خضير علي والذي قاتل الاحتلال لعدة سنوات حيث اختطف لدي عودته من زيارة لدولة مجاورة ثم ذبح وفخخ جثمانه بالمواد المتفجرة في قضاء الحويجة.
ــ وردت أسماء شيوخ ومقاومين آخرين قتلوا أو اختطفوا ولكنها لم تكن واضحة في الشريط التلفزيوني الذي اطلعنا عليه من خلال الانترنيت.
ــ محاصرة عشيرة زوبع منذ عدة أيام والاعتداء علي رجالها مع كل ما قدمته هذه العشيرة وأبناؤها للعمل المقاوم والجهادي.

ولم يذكر المتحدث أمثلة وجرائم أخري لأسباب لا نعلمها ومن أشهرها اختطاف المقاوم المعروف وبطل معركتي الفلوجة الأولي والثانية الشهيد عبد المنعم الشيبه ومن ثم ذبحه وعرض رأسه في وسط مدينة الفلوجة. وكان البديل العراقي في حينها قد نشر الخبر نقلا عن أصدقاء الموقع من داخل المدينة الباسلة، كما توجد أسماء أخري لعلماء ومقاومين عراقيين قتلوا أو اختفوا في ظروف غامضة يعتقد الكثيرون من أهالي المنطقة الغربية من العراق بأنهم راحوا ضحية التصفيات الجسدية التي تأخذ بها منظمة القاعدة.

تكلم مشعان وسكت غيره!

لقد سكت الكثيرون وما زالوا ساكتين عن هذه الممارسات الإجرامية التي ألحقت أفدح الضرر بالمقاومة العراقية بل هي نحرت المقاومة العراقية نحرا وحولتها إلي كابوس مرعب وعاجز في آن في أعين الناس فلماذا هذا السكوت؟ الشق الثاني من السؤال والذي يتساءل لماذا تكلم مشعان لم يعد مهما فالرجل كما قال في أحاديثه تعرض لمحاولة اغتيال حين فجر انتحاري من جماعة القاعدة نفسه قربه فنجا هو وقتل الانتحاري وهذا يعني أن الأمر بينه وبين الجماعة دخل في مرحلته النهائية اي مرحلة ما بعد كسر العظم ولهذا السبب قد يكون قرر أخيرا أن يقول ما لديه. أما سكوت الآخرين وخصوصا ممن عودونا علي الصياح والوعيد، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما تعلق الأمر بتجاوزات وجرائم أطراف أخري غير القاعدة كأن يكون الخصم مليشيا بدر أو جيش المهدي أو حتي بعض فصائل حزب البعث ذات التوجهات الوطنية والمتمايزة عن الصداميين فتقوم قيامتهم ولا تكاد تقعد، أما سكوت هؤلاء فلا يمكن تفسيره بالخوف من التصفيات الجسدية وقمع الأقارب علي يد مسلحي القاعدة فحتي الجبن الشخصي له حدود وقياسات لا يمكن الشطب عليها تارة أو الاحتجاج بها تارة أخري.

ليس السكوت هو المدان في هذه الحالة وهي حالة شديدة الخطورة لتعلقها بحاضر ومستقبل شعب وكرامة أمة بل يكون التصريح والكلام أحيانا أكــــثر إيلاما وبالتالي أشد تأثيرا ومن ذلك الدفاع غير المباشر عن الممارسات الدمويــــة للقــــاعدة وحليفاتها أحيانا بدعوي أهل مكة أدري بشـــــعابها مع أن أهل مـــكة في حالتنـــا هذه هم المذبوحون والمصادرة إرادتهم وقراراتهم أو بدعوي أن المسؤول الأول والأخير عن عمليات التفجير بالمفخخات والأحزمة الناسفة وعملــــيات القتـــــل التي بلغت حدا جنونيا تجــــلي في استخدام الأسلحة الكيماوية واختطاف الأطفال هو الاحتلال ومخابــــراته وفـــرق الموت ومخابرات إسرائيل وإيران، ومع أن أحدا لا يمكنه تبرئة هذه الأطراف الوالغة في دماء العراقيين ولكن من الإهانة لدماء الشهداء بمكان استثناء أحد أطراف القتل بل وأكثرها بطشا وقسوة ألا وهو التيار التكفيري بقيادة تنظيم القاعدة الذي بالمناسبة لا يخفي تعطشه للدماء البريئة لدوافع طائفية بالدرجة الأولي ولا يضيع فرصة للتباهي بتلك المذابح واعتبارها انتصارات علي الروافض والمرتدين .

ما العمل اليوم هناك تحديدا؟

إن من المؤسف والمهين أن تصل الأمور إلي هذه الدرجة من التمزق والضياع وتحكم العصابات السلفية التكفيرية بالشأن المقاوم العراقي ولعل هذه المناسبة التي كُشِفَ فيها النقاب بالوقائع والأسماء والأرقام يمكن بل يجب أن تكون بداية لوقفة جادة من قبل المقاومين الوطنيين والإسلاميين أنفسهم أولا، ومن الكتاب والسياسيين ورجال الدين المؤيدين للمقاومة ثانيا، وقفة لمراجعة التجربة برمتها، ورسم تحديد موقف سياسي وفكري وأخلاقي من هذه المجموعات التكفيرية الممولة والمسلحة جيدا والتي صار وجودها نعمة ورحمة وخلاصا للعدو المحتل من مآزقه الكثيرة. وقبل هذا وذاك سيكون من العاجل والمفيد أن تتخذ الهيئات والقوي والشخصيات السياسية العراقية المناهضة للاحتلال وعمليته السياسية موقفا صلبا ومبدئيا داعيا إلي تحجيم وتصفية التأثيرات الضارة والمهلكة للجماعات التكفيرية المسلحة عبر مسارين:

الأول اجتراح وابتكار سياقات ومسارات سياسية عملية مع القوي المناهضة للاحتلال في الجهات الأخري من الوطن وخصوصا في الجنوب وعقد تحالفات مختلفة معها. وثانيا محاصرة ومقاطعة المنظمات التكفيرية المسلحة وعزلها جماهيريا عن حواضنها السكانية وفق منحي تصعيدي ينتهي بتفكيكها تمهيدا لمرحلة جديدة من الهجوم المقاوم علي الاحتلال وحلفائه.

نختم كلامنا بالإشارة إلي الموقف المؤسف الذي عبرت عنه هيئة علماء المسلمين يوم أمس في بيانها الخاص بمجزرة التفجير الإجرامي في الحبانية والذي حملت فيه الحكومة الصنيعة وجهات سمتها مغرضة المسؤولية عن هذه المجزرة الدنيئة وبرأت هكذا وبشكل غير مباشر وبتسرع ليس من السهل تفسيره ساحة تنظيم القاعدة. لسنا ولن نكون في موضع الدفاع عن الاحتلال والحكومة الصنيعة والتي ارتكبت أفظع من هذه المجزرة، ولكننا لن نكون أيضا في موضع الضحك علي عقول الناس وخصوصا ناسنا وأهلنا المفجوعين في الحبانية والذين أشاروا إلي القتلة وصرحوا بأسمائهم وأبرزوا الأسباب ولعنوهم علنا بين جثث الشهيدات اللواتي هُتِكَ سترهن وسفك دمهن وكشفت عوراتهن فصرخ صارخ من أهل الحبانية كما نقلت الصحف:

ــ اللهم اكشف عوراتهم وعورات أهليهم كما كشفوا عورات نسائنا وهتكوا سترنا. كم كان حريا بالاخوة والمشايخ الأجلاء في هيئة علماء المسلمين أن يدينوا القتلة في تنظيم القاعدة ويستثمروا هذه المناسبة لتصحيح خطأ وجريرة اعتبارهم جزءا من المقاومة والعمل الجهادي، ذلك الخطأ التي سيكون ـ بتكرار مواقف كهذه ـ جريمة غير قابلة للغفران من الضحايا قبل خالقهم سبحانه وتعالي.