جيرمي ريفكن

في الخامس والعشرين من مارس الجاري، يحتفل الاتحاد الأوروبي بمرور الذكرى الخمسين للتوقيع على quot;معاهدة روماquot; التي أنشئ بموجبها المنتظم الأوروبي. فهذا الاتحاد يعد ظاهرة فريدة من نوعها من حيث شكل الحكم، ولا تضاهيها أي ظاهرة أخرى في تاريخ البشرية كلها. ذلك أن كثافته السكانية تبلغ الآن نحو 500 مليون نسمة، تقطن في دوله الـ27، على مساحة تمتد من البحر الآيرلندي وحتى التخوم الروسية. وقد توافدت تلك الدول وعقدت العزم خلال الثلاثة عقود الماضية، على أن تشكل أول كيان سياسي من نوعه في عالمنا الحديث. ولكي لا أبدو منبهراً وساذجاً في حديثي عن القارة الأوروبية، فلأقل لكم إنني على دراية كافية بالشق المظلم من تاريخها بالذات. وضمن ذلك، فأنا أدرك أن أنهاراً من الدماء قد سالت في وجه هذه القارة، بما لا يقارن مع أي مكان آخر في العالم. لكن بعد مضي ألفي عام من التطاحن والنزاع، استطاعت أوروبا أن تخرج من دمار الحرب العالمية الثانية، وهي عاقدة العزم على أن تفتح صفحة جديدة لكيفية تعامل البشر مع بعضهم بعضاً، وقد حققت نجاحاً كبيراً وباهراً في ترجمة عزمها هذا، إلى حقيقة وواقع.


وخلافاً لما كانت عليه الحكومات الأوروبية السابقة، التي لم يكن لها من هدف ولا غاية سوى توسيع نفوذها وأطماعها، وسلب موارد وأراضي الشعوب الأخرى، فقد بني الاتحاد الأوروبي الحديث، على فكرة جد مغايرة، قوامها تكتيل المصالح والأهداف المشتركة للشعوب، وإشاعة قيم التبادل، وبسط السلام الدائم على أساس الثقة المتبادلة بين الشعوب والأمم الأوروبية. والجديد في هذه الظاهرة، كونها المرة الأولى في التاريخ البشري حيث يجرؤ قسم مشترك من أقسام البشرية، على الإعلان عن نفسه باعتباره نوعاً واحداً من أنواعها، على رغم تباين الدول والأشكال والملامح والغايات! وبهذا المعنى، فإن تجربة الحكم الأوروبية هذه، تعد بمثابة انقلاب ثوري في وعي الشعوب، بقدر ما هي ثورة في الخيال السياسي أيضاً.

وبصفتي مراقباً أميركياً، أمضى جزءاً كبيراً من حياته في أوروبا، فإن الذي لا تخطئه العين، في عتمة هذا التشاحن اليومي، والعصبيات المخيِّمة على الأجواء، وما يلفها من ممارسات شاذة ونفاقٍ يوميٍ مخزٍ، هو تلك الرؤية الواضحة التي بدأت تشق طريقها إلى السطح، حول معنى الحياة الجديدة بين البشر، وإن كان ذلك في أوساط الأوروبيين المتعلمين من خريجي الجامعات والكليات، على الأقل.
وابتداءً، فإنه لابد من القول إن الحلم الأوروبي، يختلف اختلافاً كلياً عن نظيره الأميركي الذي وضع معيار الذهب، لعالم القرنين التاسع عشر والعشرين. ولذلك فإن الحلم الأميركي لا يدور كله إلا حول فرص ثراء الفرد وازدهاره. وللسبب عينه، فإننا لا نعرف حريتنا إلا من باب استقلالنا وتحرر حركتنا الذاتية. ولعل هذا هو ما يفسر عشقنا المفرط للسيارات إلى اليوم. ولطالما نهضت ثقافتنا التربوية كلها، على قاعدة أن سعي الفرد لتحقيق مصلحته منفرداً في السوق، هو الطريق الأمثل لتحقيق السعادة الشخصية وتقدم المجتمع بأسره. وحتى إلى عهد قريب جداً، ظل هذا الحلم الأميركي قوياً وباهراً.

غير أن للشباب الأوروبيين المعاصرين، حلمهم الخاص والمغاير لحلمنا، على أية حال. فما أن تلح على الواحد منهم في التعبير عن رؤيته المستقبلية، حتى يحدثك عن حلمه بـquot;حياة أفضلquot; يتحمل المجتمع بأسره، مسؤولية تحقيقها والوصول إليها. ورغم التباين الواسع والكبير جداً، في أكثر منطقة من مناطق العالم، شهرة بتعددها الثقافي والعرقي، فإن هناك قاسماً مشتركاً عاماً، يجمع بين غالبية الأوروبيين المتعلمين الشباب، على الأقل. ويتلخص في: تحسين مستوى ونوعية الحياة، وضمان التنمية المستدامة، وحفز الحقوق الإنسانية والاجتماعية، وحفظ التوازن ما بين العمل وساعات الفراغ والترفيه، وتحمل المسؤولية الاجتماعية إزاء مساعدة الفئات الفقيرة والمستضعفة، إضافة إلى بناء جسور السلام والتعايش المشترك. تلك هي السمات الأبرز المحددة لطبيعة الحلم الأوروبي، وهي ما سيجري الاحتفال به في مناسبة مرور الذكرى الخمسين للإعلان عن نشأة المنتظم الأوروبي.

وبالطبع فإن الأحلام هي ما تصبو الشعوب لأن تعيشه حياة وواقعاً، بدلاً من حياتها الفعلية. وعلى رغم ما أحرزته أوروبا على طريق تحقيق حلمها، فإنه لا يزال أمام شعوبها مشوار طويل جداً لجعل ذلك الحلم واقعاً. والذي يثير الاهتمام بهذه التجربة الأوروبية، هو أنه على رغم عيوب ونقائص البشر أينما كانوا، فإن قسماً لا يستهان به من البشرية، بدأ يكافح جدياً اليوم، هناك في أوروبا، من أجل تشكيل وعي عالمي، في عصر التشابك العالمي هذا.
وبما أن الاتحاد الأوروبي بات قاب قوسين أو أدنى الآن، من الاحتفال بالذكرى الخمسين لمولد الأمة الأوروبية، فإنه من الواجب القول إن هذا النوع من الاحتفالات لا يقام لمجرد الذكرى واجترار الماضي، بقدر ما أن الهدف الرئيسي منه، هو رسم معالم وآفاق المستقبل.

وأول هذه المعالم والآفاق، حاجة أوروبا لتقديم القدوة والمثل لبقية شعوب العالم، في تجاوز النزاعات التقليدية الجيوسياسية التي سادت عالمنا، طوال الفترة الممتدة من quot;معاهدة ويستفاليا للسلامquot; عام 1648، وإلى اليوم. وأعني بذلك ضرورة أن تبادر أوروبا إلى تبني سياسات مناخية جديدة، ترمي إلى حفز الآخرين على العمل من أجل حماية كوكبنا والحفاظ على حياة البشرية كلها فيه.
ثانياً، ينبغي على الأوروبيين كذلك، أن يظهروا للعالم كيف يمكن للبشرية أن تتعايش مع بعضها بعضاً، في أمن وسلام وتعاون فيما بينها، بصرف النظر عن انتماءات أفرادها العرقية والثقافية والدينية، وبصرف النظر عن كونهم ذكوراً أم إناثاً. ويقيناً فإن فكرة الاتحاد الأوروبي نفسها، إنما تقوم على التعددية الثقافية هذه. ولكن لا يزال على الأوروبيين أن يبرهنوا لبقية العالم على قدرتهم على تحويل قارتهم إلى quot;فضاء دولي رحبquot; بحق. ومحك الاختبار العملي لهذا، هو أن تطفئ نعرة العداء السياسي المحافظ لملايين المهاجرين إليها، وأن تبدي قدراً أكبر من التسامح ورحابة الصدر، في القبول بهؤلاء وإدماجهم في مجتمعاتها وثقافاتها.

ثالثاً: على الدول الأعضاء في الاتحاد، التوفيق ما بين نظام الرعاية الاجتماعية الذي يقوم عليه نظامها الاقتصادي، ونمط اقتصاد السوق، حفظاً للتوازن المطلوب بين النظامين، وسداً لثغرات ونقائص كليهما بعناصر قوة النظام الآخر.
رابعاً وأخيراً: على الأوروبيين لعب دور أكبر في الساحة الدولية، لاسيما في السعي إلى تقديم نموذجهم القومي البيني، القائم على السلام والتعاون المشترك، على أنه نموذج قابل للتعميم والتطبيق، على النطاقين الإقليمي والدولي.