اعتبر اعلان وزارة الداخلية الاماراتية الاسبوع الماضي عن التوجه لمنح الجنسية الاماراتية لعدد من المحسوبين علي فئة عديمي الجنسية او البدون تطورا مهما قد يؤدي الي انهاء المشكلة بشكل تدريجي. ولكنه في الوقت نفسه اعاد فتح ملف الجنسية والتجنيس بدول مجلس التعاون الخليجي، وما يرتبط بها من إشكاليات ترتبط بـ المواطنة و الولاء، و العرق و المذهب، وجميعها قضايا حساسة في منطقة حديثة التكوين. نقول ذلك لان أغلب هذه الدول لم تصبح كيانات مستقلة الا بعد الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج في 1971. ذلك الانسحاب، هو الآخر، كشف المستور من ممارسات الاستعمار البريطاني في الدول المستعمرة، وأظهر الي العيان تبعاته السلبية وسوءاته. وما تزال المنطقة تعاني من تلك التبعات التي خلفها وراءه، ومنها قضايا الحدود الجغرافية بين دول الخليج، وشكل انظمة الحكم، واشكاليات المواطنة، وقضية البدون، بالاضافة الي الجدل المتواصل حول الدولة القطرية وما اذا كان استمرار وجود دول الخليج باوضاعها الحالية وفي زمن العولمة والتحالفات السياسية والاقتصادية، امرا منطقيا. ولا ينفك عن هذه الحقائق الجدل القائم بشأن العلاقات مع اكبر دولتين في المنطقة: ايران والعراق، والسجالات السياسية والامنية بين ضفتي الخليج علي مدي اربعة عقود تقريبا (اي منذ صدور القرار البريطاني بالانسحاب في كانون الثاني ـ يناير 1968). ومن الصعب، في ضوء ذلك، الاعتقاد بعدم وجود دور لتلك الحقبة الاستعمارية السوداء في تاريخ المنطقة، في تأجيج التوترات بين كافة مكوناتها، سواء حول قضايا الحدود ام الهوية السياسية ام الانتماءات والتحالفات الاستراتيجية، ام القضايا الاخري المرتبطة بالعرق والمذهب.
الحديث عن فئة البدون الموجودة في اغلب دول مجلس التعاون، تواصل طوال فترة ما بعد الاستعمار، وما يزال يفرض نفسه بسبب استعصاء حل تلك المشكلة لاسباب سياسية وايديولوجية تارة، ولاسباب فنية وادارية تارة اخري. وما تزال التساؤلات تطرح بين الحين والآخر في هذه الدول: من هو المواطن؟ وما قيم تلك المواطنة وشروطها؟
وهل ثمة هوية محددة لاولئك المواطنين؟ وهل الجنسية هي المعيار الاول والاخير للمواطنة؟ وما علاقة المواطنة الصالحة بالولاء للنظام السياسي؟ وبمعني آخر هل النظام السياسي القائم في دول الخليج، وهو نظام حكم قبلي توارثي، هو الذي يحدد سمات المواطنة وشروطها؟ قد يطرح غياب الحياة الدستورية وفق المعايير الدولية، سببا لعدم وجود اجابات واضحة علي التساؤلات السابقة، ولكن هل وجود دستور توافقي، كما هو الحال في الكويت، يحول دون استمرار المشكلة؟ ام ان ذلك مرتبط بوجود عقلية محددة في منطلقاتها واهدافها واطرها الفكرية والسياسية تزين لاصحابها القرارات الخاطئة المتعلقة بمصائر الناس؟ فالسجال حول مجموعة غير قليلة من المواطنين المحرومين من الجنسية في اغلب دول مجلس التعاون، لم ينحصر في الدهاليز الضيقة حتي لو تجاهله الاعلام السلطوي، ولم يغب عن اذهان نشطاء حقوق الانسان المحليين والمنظمات الحقوقية الدولية التي تستلم سيلا متواصلا من شكاوي اولئك المحرومين من الجنسية. ولا بد من تسجيل حقيقة مهمة، وهي ان تواصل الحديث عن فئة البدون في الكويت انما هو بسبب حالة الانفتاح النسبي اعلاميا وسياسيا في ذلك البلد، بينما الامر ليس كذلك في بقية بلدان الخليج التي تخضع لقوانين صارمة للهيمنة علي اجهزة الاعلام. فقضية البدون قائمة في البحرين والامارات وقطر والسعودية وعمان، بدرجات متفاوتة، ولاسباب متباينة ايضا. فما يمنع الحكومة الكويتية من منح الجنسية للبدون، يختلف عما يمنع حكومة البحرين مثلا عن ذلك.
فمن هم البدون؟ وما علاقة ذلك بالحقبة الاستعمارية؟ ولماذا تتردد العائلات الحاكمة في تجنيسهم؟ البدون في اغلب البلدان هم الذين لم يحصلوا علي جنسية البلد الذي يعيشون فيه بعد الانسحاب البريطاني في 1971 وما نجم عنه من استقلال تلك البلدان، وهي البحرين وقطر والامارات وعمان. وكانت الكويت قد نالت استقلالها قبل ذلك بعشرة اعوام، بينما السعودية لم تخضع للاستعمار البريطاني بشكل مباشر. اما الامارات فلم تكن موجودة كدولة خلال الحقبة الاستعمارية، بل نشأت في 1971 ككيان سياسي يضم سبعا من مشيخات الخليج وهي: ابوظبي، دبي، الشارقة، رأس الخيمة، ام القيوين، عجمان، الفجيرة. وتشكلت المواطنة علي اساس من اعتبروا يومها مواطنين، بينما بقيت فئة واسعة ممن كان يعيش في تلك البلدان بدون جنسية، واصبحوا من فئة البدون. وخلال العقود اللاحقة تواصلت المساعي بخطي بطيئة، لحل المشكلة، ولكن لم يتم حسمها بشكل نهائي، فبقيت عاملا ضاغطا علي الطرفين: الحكم والافراد انفسهم. ونظرا لان دول الخليج لم تكن تتمتع بنظام حديث للضمان الاجتماعي، فقد عاني افراد تلك الفئة من حالة من الحرمان وشظف العيش. فهم محرومون من كافة الخدمات التي يتمتع بها المواطنون ذوو الجنسية، مثل العلاج والتعليم والوظيفة المنتظمة، بالاضافة الي الجنسية وجواز السفر. وقد اثيرت قضية البدون في الكويت خصوصا بعد ازمة الاجتياح العراقي لأراضيها في 1990، وطرحت مطالبات عديدة بمنح الجنسية لافراد فئة البدون، خصوصا ان اغلبهم وقف ضد الاجتياح، وقدم تضحيات دفاعا عن الكويت.
وكان هناك أمل كبير بحسم المشكلة بعد انتهاء الازمة، ولكن ما يزال هناك تردد لدي الحكم في انهاء معاناة هذه الفئة التي يربو عدد افرادها علي 120 الفا. وفي العقدين الاخيرين، هاجر الآلاف منهم الي الخارج، واستوطنوا في الدول الاوروبية وكندا وامريكا، بينما ينتظر الباقون منهم حلا حقيقيا لقضيتهم. الحكومة الكويتية ترفض منحهم الجنسية لأسباب عرقية ومذهبية، برغم تصاعد الضغوط من جهات دولية كثيرة لانهاء معاناتهم.
من هنا جاء قرار دولة الامارات العربية المتحدة باعطاء ما تسميه خلاصة القيد كخطوة لمعاجة فئة عديمي الجنسية لديها. وسيصبح هؤلاء فور تسلمهم خلاصة القيد من مواطني دولة الامارات. وكانت اللجنة المشتركة لدراسة ملفات عديمي الجنسية برئاسة العميد عبد العزيز الشريفي، قد اعلنت ان الادارات المعنية تعكف علي استكمال بيانات الدفعة الاولي وعددهم 1294 شخصا تمهيدا لمنحهم الجنسية. وتشترط اللجنة علي هذه الفئة للحصول علي الجنسية الاماراتية الاقامة بصورة دائمة ومتواصلة منذ ما قبل قيام الاتحاد في عام 1971 وألا تكون قد أخفت معلومات ووثائق من شأنها أن تدل علي جنسياتها السابقة وأن تكون من ذوي السيرة الحسنة ولم ترتكب أي جرائم مخلة بالشرف والأمانة. هذه خطوة مهمة علي طريق التعاطي الجاد مع هذه المشكلة ذات البعدين السياسي والانساني. وتجدر الاشارة الي ان الفئة المحرومة من الجنسية في دول الخليج لا يمكن تمييزها عن بقية المواطنين سواء في المظهر العام ام العادات ام السلوك، وبالتالي اصبح التمييز ضدها مسألة تثير حفيظة بقية المواطنين فضلا عن الآخرين. وقد تأخر التعاطي مع هذه المشكلة وقتا طويلا، في الوقت الذي استمر فيه تدفق مئات الآلاف من الاجانب علي اسواق العمل الخليجية خصوصا في مجالات الخدمات والبناء، نظرا للحاجة الماسة للايدي العاملة. ونظرا لغياب القوانين التي تحمي هذه الايدي المستوردة فقد تعرض الكثيرون منهم لانتهاكات حقوقهم، واصبحوا يتعرضون لتمييز عنصري بغيض. وصدرت تقارير محلية ودولية حول سوء المعاملة التي يتعرضون اليها. ولا شك ان للرقابة الدولية علي الاوضاع المحلية في دول الخليج دورا في تحسين اوضاع العمالة الاجنبية المهاجرة، وكذلك تحريك السلطات لاعادة النظر في سياساتهم تجاه فئة المحرومين من الجنسية. ومن الاجدر لدولة كالامارات منح الجنسية لمن قضوا سنوات طويلة في خدمة البلاد وبنائها، لاسباب عديدة منها: ضمان ولائهم للوطن وتجاوز الانتقادات الدولية الموجهة للسلطات، ومحاصرة الاساليب الملتوية والفاسدة للتحايل علي قوانين الاقامة والجنسية، وتقوية اقتصاد البلاد بتقليص حجم الاموال التي تحول الي البلد الام لاولئك العمال الوافدين، وتحقيق مستوي لائق من الاخلاق والقيم في التعامل مع البشر. فما دام الاقتصاد قادرا علي استيعاب العمالة الوافدة التي تقدر باكثر من 80 بالمائة من مجموع سكان الامارات، فمن الافضل اتخاذ خطوات لاستيعاب نسبة منهم ضمن المواطنة.
اما البحرين فلها قصة اخري مع التجنيس. فبعد عقود من حرمانهم من الجنسية، فاجأت الحكومة العالم بانتهاج مشروع التجنيس السياسي الذي اصبح من عوامل التوتر والاحتقان في البلاد. فقد تم تجنيس بضعة آلاف من البدون، واغلبهم من الذين ولدوا او عاشوا في البلاد عقودا، ولكن في الوقت نفسه، قام الحاكم بتجنيس عشرات الآلاف من بلدان عديدة لاسباب غير واضحة، يعتقد انها محاولة لتغيير التوازن السكاني في البلاد لأهداف سياسية بحتة. وقد كشفت الفضيحة التي صاحبت تجنيس الرياضي الكيني، مشير سالم جوهر، احد ابعاد عملية التجنيس هذه. فقد شارك هذا الرياضي في ماراثون طبريا الاسرائيلي، فحدثت ضجة عربية ضد ذلك، فسحبت الحكومة البحرينية جنسيته لامتصاص الغضب، ولكنها اعادتها اليه بعد ان هدأت العاصفة. وتم توطين المغني مايكل جاكسون، وتجنيس المطربة السورية أصالة نصري. يتم هذا التجنيس لأسباب سياسية بحتة، وليس بدوافع انسانية او اقتصادية او بنيوية. وهذا يكشف غياب التخطيط الاستراتيجي لدي الكيانات الخليجية، وعدم وجود تنسيق حقيقي في ما يتعلق ببناء كيان سياسي عصري فاعل. فعلي مدي المستقبل المنظور، ستظل دول مجلس التعاون بحاجة لعمالة وافدة، وتستطيع استيعاب نسبة من هذه العمالة في نسيجها الوطني، اما بدوافع انسانية او لاسباب اقتصادية وامنية، ولكن ذلك مشروط بوجود خطة مشتركة تتفق عليها دول المجلس، ويشارك المواطنون في وضعها، وتخضع لحوارات مستفيضة لكي تكون متكاملة ومنبعثة من توافق عام بين النخب المثقفة والسياسيين والاستراتيجيين. لو حدث ذلك لما حدث هذا التخبط، ولما كان التضارب في منطلقات سياسات التجنيس واهدافه كما يحدث الآن، ولما تعرضت دول الخليج للانتقادات الدولية في مجال تعاطيها مع العمالة الوافدة.
مشكلة دول الخليج في الاساس انها تفتقد لآليات عصرية لتقنين السياسات، وبالتالي فان قوانينها وقراراتها تصدر، ليس عن جهات تشريعية منتخبة، بل عن رغبات شخصية لدي الحاكم، او قبلية لدي عائلته، بعيدا عن الذوق الشعبي الذي ينطلق عادة من الشعور بضرورة حماية المصالح الوطنية. وكما هي سياسات الانتاج النفطي التي تخضع لقرارات تفرضها العلاقات مع الدول الكبري، ولا ترتبط عادة باحتياجات البلدان، والسياسات الداخلية المنفصلة عن القيم الديمقراطية، والسياسات الاقتصادية والتنموية التي كثيرا ما تنطلق لاعتبارات مصلحية لبعض الفئات المتنفذة، فان سياسات التجنيس هي الاخري غير محكومة بقوانين عصرية يتم مراجعتها وتطويرها كلما اقتضت الحاجة، علي غرار ما يجري في البلدان المتقدمة. ومن هنا فكثيرا ما تعرضت سياسات دول الخليج في مجال العمالة الوافدة لانتقادات من الجهات الدولية المعنية بقوانين العمل وشروطه، وفي سياسات التجنيس المتناقضة. ففي الوقت الذي تحرص فيه دول كالكويت والامارات وقطر علي تقليل منح جنسياتها لغير المواطنين، فان سياسة حكومة البحرين تنطلق علي اسس مختلفة واعتبارات مغايرة، ترتبط بالتاريخ المضطرب للعائلة الحاكمة مع شعب البحرين، ورغبتها المتواصلة في استرضاء الغرب علي حساب مصالح الشعب والوطن. ان القرار الاماراتي الاخير بالتجنيس التدريجي للمستحقين من فئة البدون خطوة ايجابية تستحق التشجيع، ويجدر بحكومة الكويت الاحتذاء بها لانهاء معاناة فئة البدون، كما يجدر بحكومة البحرين الاستماع الي شكاوي مواطنيها من مغبة الاستمرار في التجنيس السياسي القائم علي اوسع نطاق في بلد صغير المساحة ومحدود الامكانات. والامل ان يمتلك مجلس التعاون قدرا من الشجاعة تؤهله للاتفاق علي سياسات واضحة لمنح الجنسية لمن يستحقها من المواطنين خصوصا الذين قدموا خدمات جليلة في مجال التعليم والبناء.
فالبديل لذلك هو الاستـــمرار في عشـــوائية سياسات التجــنيس، وهو امر لا يخدم مصالح الدول والمنطقة.