سمير عطا الله

ذهبت للسلام على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مع الشيخ نهيان بن مبارك. وقد جاء الرئيس الجزائري إلى أبوظبي من الرياض لكي يلتقي الأصدقاء، في بلد أقام فيه عامين، في مرحلة ما بعد وزارة الخارجية وقبل الرئاسة. وقد أخذنا الإصغاء إلى الرجل الذي بدأ العمل في الصناعة التاريخية مذ كان في السادسة عشرة، فكان أن غفلت عن استئذانه في نشر بعض ما أفصح، أو ما حدَّث به. فالرجل ساحر البلاغة وآسر التعبير، فتنسى أنك صحافي وأن المحدِّث ماهر في صناعة الأحداث.

وفي أي حال قد لا يغضب الرئيس بوتفليقة، العائد من القمة، أن أروي مقطعاً من الحديث لا علاقة له بالأخبار إلا علاقة كليلة ودمنة بانتقال الرمز من عصر إلى عصر. عندما كان الرئيس بوتفليقة وزيرا للخارجية جاء في زيارة إلى بيروت، واحتفى به أصدقاؤه، من السيدة علياء رياض الصلح إلى الأستاذ غسان تويني.

سألته في أبوظبي، هل تذكر تلك الزيارة؟ أجاب التاريخي المتواضع: laquo;هل هناك من ينسى أصدقاء العمر؟raquo; قلت له، أخبرتنا السيدة علياء الصلح في laquo;النهارraquo; آنذاك، أنك لاحظت أن اللبنانيين يرفعون صوراً كثيرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر وصوراً قليلة لسياسييهم، فكان أن علقت بالقول laquo;لماذا يحتاج اللبنانيون إلى زعيم غائبraquo;. وابتسم الرئيس التاريخي ساخرا من ذاكرتي: laquo;ليس هذا تماماً ما قلت. بل إنني عندما لاحظت كثرة صور الزعيم العربي وقلة صور الزعماء اللبنانيين قلت للسيدة الصلح على العشاء في منزل رياض بك: انه لأمر مؤسف أن يتجاوز الشعور القومي الشعور الوطني في بلد مثل لبنان، فذلك ليس دليل عافية، بل هو دليل على خلل عظيمraquo;. مضى على الموضوع أكثر من ثلاثة عقود، وذاكرة الرئيس بوتفليقة لا تقبل أي خلل في التفصيل أو في الاستنتاج. وأعدت إلى ذاكرته يوم قابلته في المرة الأولى، فقال laquo;كنا أكثر انتصارا بقليل في تلك الأيامraquo;.

ورويت له أنني جئت إليه من مجلس الشيخ نهيان بن مبارك، حيث رأيت بكل عفوية، صورة جانبية للتاريخ العربي المعاصر. الوزير محمد المصمودي من تونس. الوزير محمد الصحاف من العراق. الوزير عدنان الباجه جي الذي عاد إلى بغداد وفي ظنه أن العراق قد عاد، فإذا العراق لم يعد، بل قد لا يعود. وسألت في المجلس عن عربي آخر، عبد الحميد البكوش، رئيس الوزراء الليبي الذي أبعد سفيرا إلى باريس أيام الملك إدريس السنوسي، فانصرف إلى ترجمة رامبو. وكانت تلك آخر مرة شاهدته فيها على رصيف مقهى من مقاهي باريس. وكان يقرأ النص الفرنسي ثم نصه هو. وكنت أقول في نفسي هل جاء هذا الرجل من طرابلس لكي يترجم رامبو. وقد أحزنني أن أعرف أن عبد الحميد البكوش غائب عن لقاء الجمعة عند نهيان بن مبارك لأنه متعب. جدا متعب. وبعيد عن يوم كان يوم كان.