محمد أبو رمان

البيان الذي نشره الجيش الإسلامي رداً على القاعدة، وردّ أحد أبرز قيادات القاعدة المركزية (عطية الله) عليه، بمثابة إعلان مباشر وصريح للمرة الأولى عن الأزمة البنيوية الحقيقية التي تعاني منها الفصائل السنية المسلحة المختلفة.

صحيح أنّ الفصائل المسلّحة الرئيسة أقرب إلى المدرسة السلفية في الخطاب الفكري والطابع الحركي، إلاّ أنّ تنظيم القاعدة يقع على يمين هذه المدرسة، فيما تمثل quot;قاعدة العراقquot;، التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، يمين اليمين في المدرسة quot;السلفية الجهاديةquot;، ما خلق بدوره رؤى ومواقف متباينة، ومتناقضة أحياناً، بين quot;القاعدة العراقيةquot; من جهة والفصائل الأخرى من جهة ثانية.

أهم الخلافات تكمن في الأهداف السياسية للعمل المسلّح. فبينما تسعى القاعدة إلى أن يكون العراق ساحة حرب مفتوحة ضد الأميركيين وموطناً للتجنيد الفكري والحركي للدول الأخرى، ومحلاًّ لتطبيق الأيديولوجية التي يؤمن بها التنظيم، فإنّ الفصائل الأخرى وإن كانت تتفق في quot;إقامة الدولة الإسلامية في العراقquot; إلاّ أنها تختلف مع القاعدة في إدراكها لطبيعة هذه الدولة، ولاعتبار quot;خروج الاحتلالquot; والاستقلال وبناء أفق سياسي واقعي جديد في العلاقة مع الأطراف المختلفة بمثابة هدف استراتيجي، فهي تخوض غمار العمل المسلّح وعينها على أهداف سياسية قصيرة وبعيدة المدى، لا تنسجم مع معطيات العملية السياسية الحالية، التي تسعى هذه الفصائل إلى نسفها من جذورها، لكنها في الوقت نفسه لا تمانع في بناء علاقة مع قوى سنية أخرى أو إجراء مفاوضات (حتى مع الأميركيين) من أجل تغيير شروط الإدماج السياسي للسنة العراقيين.

الاختلاف -بين القاعدة والفصائل الأخرى- يطال بدرجة رئيسة، أيضاً، نمطية العمل المسلح والخطاب الإعلامي، فالقاعدة تعتمد مبدأ العمليات quot;الانتحاريةquot; وتتوسع فيه بدرجة كبيرة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى مقتل مدنيين وأبرياء، بخاصة من الشيعة، وتتبنى القاعدة أسلوب الأشرطة المصورة الذي يظهر قطع رؤوس الرهائن. في المقابل تسعى الفصائل الأخرى، بالتحديد الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين، إلى حصر العمل المسلح ضد القوات الأميركية والمحتلة بدرجة أولى والجيش العراقي الجديد بدرجة ثانية، والابتعاد عن تبني أو تسويغ أية عملية تؤدي إلى مقتل مدنيين.

لطالما تجنّبت الفصائل المسلّحة الرئيسة كالجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وحتى هيئة العلماء المسلمين ndash; التي تمثل مظلة مدنية سنية سلمية- الإفصاح عن موقفها من عمليات القاعدة ونشاطها وخطابها الإعلامي، ذلك بذريعة حماية quot;وحدة الصفquot; وإبقاء الأولوية في قتال القوات الأميركية والمحتلة الأخرى، وعدم التورط في صراعات داخلية، إلاّ أنّ الأيام الأخيرة حملت هذه الخلافات إلى العلن، وكشفت عن المواجهات التي وصلت إلى مرحلة متطورة من الاشتباكات العسكرية، كما اعترف محمود الزبيدي، الناطق باسم كتائب ثورة العشرين، وإلى قتل حارث الضاري، أحد ناشطي الكتائب، وابن شقيق الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة العلماء المسلمين، على يد القاعدة.

المرحلة المفصلية في تطور الخلافات واستفحالها كانت بعد إعلان القاعدة قيام ما يسمى بـquot;دولة العراق الإسلاميةquot; في المناطق السنية الرئيسة، بعد مقتل زعيمها أبو مصعب الزرقاوي، فقد عملت على فرض رؤيتها ومواقفها على باقي الفصائل السنية المسلحة والسلمية، وبدأت تتصرف بالفعل كما لو أنها السلطة وأميرها quot;ابو عمر البغداديquot; هو أمير الدولة، وهو بالتأكيد ما رفضته الفصائل الأخرى، وخلق مناخاً من الاحتقان والتوتر، بخاصة في ظل عمليات الاستعراض العسكري التي قام بها أفراد القاعدة في عدة مدن، وإجبارهم عدداً من السكان على إعلان البيعة لأبي عمر البغدادي!

في الحقيقة، إنّ إصرار الفصائل المسلّحة الرئيسة، سابقاً، على تورية وإخفاء خلافاتها مع القاعدة لم يؤد إلى وحدة الصف بقدر ما أدّى إلى ترحيل الأزمة البنيوية في هوية quot;المقاومةquot; السنية، ومنح مشروعية ضمنية لعمل القاعدة وحركتها داخل المجتمع السني، بل وتشويه صورة المقاومة برسم عمليات القاعدة وخطابها، ما أدى بمرور الوقت إلى تجذر القاعدة وامتدادها وقوتها على حساب هذه المجموعات، التي كانت تفضل عدم الظهور الإعلامي لدواع وأسباب أمنية.

لا يمكن تحميل الفصائل المسلحة السنية وحدها مسؤولية صعود القاعدة؛ فالمشكلة الرئيسة تكمن في سياسة الاحتلال واعتماده الرئيس على الجانب العسكري والأمني، بما له من تداعيات وأعراض تزيد حالة السخط داخل المجتمع السني وتوفر الظروف المناسبة للتجنيد والتعبئة داخل القاعدة، التي مثّلت وتمثل الخطاب الأكثر تشدداً، والأكثر وضوحاً، فتستهوي الشباب الغاضب والحانق بسهولة أكبر.

كما وفّرت الهوية الطائفية للحكومة العراقية وممارسات أجهزتها الدموية وأعمالها البشعة محفزات رئيسة لدفع الشباب السني نحو التنظيم الأكثر تشدداً في خطابه الطائفي والسياسي ضد الحالة القائمة.

بدورها الدعاية الإعلامية والسياسية الأميركية لعبت دوراً رافداً ومعززاً للصورة التي تجعل من القاعدة التنظيم المهمين الأكبر والأكثر تأثيراً، الذي يتوق شباب العرب السنة إلى الانضمام إليه لسمعته (هذه).

في المحصلة، ثمة انفجار واضح للخلافات والصراعات بين القاعدة والفصائل الأخرى، وإن كانت هنالك جهود مصالحة فإنّ الفجوة أكبر من ردمها ولا بد أن تتطور لتأخذ مداها.

في الحسابات العسكرية القاعدة هي الأقدر على الحسم، بخاصة بعدما اكتسبت صبغة عراقية تكاد تكون مطلقة، لكن المفارقة تبدو أنّ اشتباك القاعدة مع الفصائل المسلحة وخطابها الإقصائي التخويني تجاه الفصائل السلمية، كهيئة العلماء والحزب الإسلامي والوقف السني، سيؤديان إلى خسارتها المحضن الاجتماعي السني مع مرور الوقت وانكشافها اجتماعياً. وإذا ما توحدت العشائر والقوى السنية المختلفة ضدها فستخسر القاعدة كثيراً.

القاعدة لا تدرك بعد quot;القاعدةquot; الذهبية: إنّ حماية المجتمع السني لها هي المصدر الرئيس لقوّتها!