قبل الإنتخابات الرئاسية: معالجة نظام حكم السُنّة في لبنان


ليلى نقولا الرحباني

كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، وعن أهمية هذا الحدث بالنسبة للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً الذين وعوا خلال السنتين الماضيتين ان اتفاق الطائف الذي فُرض فرضاً على اللبنانيين بمباركة سعودية واقليمية ودولية، أتى ليضع حداً لسلطة رئيس الجمهورية كحاكم مركزي يتولى السلطة الاجرائية، وليعزز دور رئيس الحكومة الى اقصى حدود rlm;فيجعله شريكاً في السلطة ظاهرياً ورئيساً حقيقياً وفعلياً للدولة اللبنانية، وهذا ما برز جلياً مع تصرفات الأكثرية الحاكمة اليوم.

وقد أظهرت وقائع السنتين المنصرمتين، ان حكومة rlm;الطائف يمكنها ان تحكم من غير رئيس الجمهورية وبشكل شبه تام، ما يعني وبكل بساطة ان صيغة rlm;الطائف هي بالضبط صيغة استبدال حكم طائفة بطائفة أخرى، وان المسيحيين لم يعد لهم quot;موقع فاعل على صعيد الشراكة في الوطنquot;، كما تبين جلياً أن المتباكين اليوم على quot;موقع الرئاسةquot; من المسيحيين الموالين هم أنفسهم الذين سهلوا ومهدوا وتواطأوا لتمرير الطائف بالشكل الذي اتى فيه، وحتى بدون quot;الفاصلةquot; التي كان يطالب بها قسم كبير من اللبنانيين والتي كلفتنا هيمنة سورية على البلاد طوال خمس عشرة سنة.
واذا عدنا لمقارنة صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية قبل الطائف وبعده لوجدنا ان الرئيس بعد التعديل الدستوري عام 1990 اصبح quot;هملت الموارنةquot; وتبادل الادوار مع رئيس الحكومة قبل الطائف الذي كان يقال عنه quot;باشكاتبquot; أو quot;عثمان السنّةquot;، وتحول الرئيس من quot;رمز للدولة اللبنانية وناطق باسمهاquot; الى quot;حارسquot; على قصر بعبدا.

فقد خص الدستور اللبناني الصادر عام 1926 رئيس الجمهورية بسلطات دستورية واسعة حيث ناط به السلطة الاجرائية بمعاونة الوزراء مما جعله سيد السلطة التنفيذية. ويعتبر الباحثون أن لهذا النص الدستوري أسبابه المتعددة منها المتعلق بإرادة السلطة المنتدبة حصر السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية، لانها كانت ترى في ذلك تسهيلاً لإجراء رقابتها على أعمال الدولة والتدخل في شؤون البلاد، ومنها ما يتعلق بالطائفة المارونية وسيطرتها على مقدرات الحكم ايماناً منها بأنها كانت الاساس في انشاء الكيان اللبناني ولها الحق بتزعمه، وأخيراً طبيعة العقلية السياسية اللبنانية التي كانت تفضل تمركز السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية.

واذا كانت النظم البرلمانية قد تأثرت في غالبيتها ببعض خصائص النظام الرئاسي وخاصة لجهة تعزيز دور رئيس الدولة كما في فرنسا ولبنان قبل الطائف، فإن واقع لبنان الطائفي وغياب الاحزاب السياسية عن الحياة البرلمانية، جعل من هيمنة رئيس الدولة هيمنة لطائفة معينة على مقدرات الحكم وحال دون مشاركة بقية الطوائف في القرار السياسي، باستثناء ما كان يتمتع به رئيس الحكومة بحكم الميثاق الوطني والاعراف الدستورية من مشاركة من خلال توقيعه على أعمال رئيس الجمهورية.

وبالرغم من انه من الناحية العملية لم يمارس رئيس الجمهورية هذه الصلاحية بدون توقيع رئيس الحكومة وحتى بدون اقتراحه، لكن هذا لم يمنع من ان تتحول الحكومة ككل أداة طيعة في يد رئيس الجمهورية، حيث كان يفرض عليها السياسة التي يريدها تحت طائلة التهديد بتغييرها أو إقالة الوزير المعارض. وتاريخياً، لم يشهد لبنان ان أقال رئيس الجمهورية الحكومة ولو مرة واحدة، لكنه في كل مرة كان يختلف مع رئيس الحكومة على موضوع معين يقدم الأخير استقالته، وهذا ما حصل مراراً مع رؤساء الحكومات قبل الطائف، مما قاد الى عملية تقييد واسعة لرئيس الجمهورية وجعل رئيس الحكومة بمنأى عن رقابته في الطائف، ثم ادخالها في صلب الدستور وجعل رئيس الحكومة اليوم حاكماً بأمره طالما أن أكثرية النواب معه.

إذاً، شكّل رئيس الجمهورية اللبنانية قبل الطائف محور الحياة السياسية وقطبها الاساس والارادة المحركة لسياسة الحكومة، وكانت قوته مستمدة من مصدرين:

أولاً: الدستور الذي ناط به السلطة الاجرائية، الذي يتولاها بمعاونة الوزراء، وأعطاه صلاحية تعيين الحكومة واقالتها بمرسوم موقع منه شخصياً عندما يريد، لذلك كان هم رئيس الحكومة المحافظة على رضى رئيس الجمهورية الذي يملك غالباً السيطرة على مجلس النواب النيابي، كما كانت الحكومة تدور في فلكه، ولا تجرؤ على معارضته. والاهم هو ما اعطته اياه المادة 55 القديمة من صلاحية quot;حل المجلس النيابيquot; بقرار معلل بموافقة مجلس الوزراء.

ثانياً: الواقع السياسي اللبناني الذي جعل من رئيس الجمهورية المرجع الاول للقرار السياسي في لبنان، وهيمنة quot;المارونية السياسيةquot; على مقدرات الحكم واستئثارها بالسلطة علماً ان المارونية السياسية لم تكن تتألف من الموارنة فقط بل كانت تحالفاً اقطاعياً مهيمناً يضم موارنة وسنّة ودروزاً وشيعة.... وكانت أشبه بـ quot;نادِ مغلقquot; يتشكل منquot;الزعامات التقليديةquot; التي همشت الشعب واستفادت وأفسدت على حسابه.

لكن الطائف الذي أتى بمباركة من البطريركية المارونية انتزع من رئيس الجمهورية اللبنانية هذه الصلاحيات الثلاث الاساسية: السلطة الاجرائية، وتعيين الحكومة واقالتها، وحل مجلس النواب، وحوّله من quot;مركز القرار الاول في الدولةquot; الى quot;مركز يملك حق الاعتراض الذي يمكن تخطيهquot;، ففقد السلطة المعول عليها لاحداث التوازن في نظام الطوائف الذي انقلب بعد الدستور الى نظام حكم السنّة في لبنان.

واذا كان التعديل الدستوري الصادر في 21/9/1990 قد أبقى على الثنائية التنفيذية في السلطة، إلا أنه أحدث تغييراً جذرياً في صلاحيات رئيس الجمهورية فانتزعها منه وناط معظمها بمجلس الوزراء بموجب المادة 65 الجديدة، وأعطى القسم الآخر من الصلاحيات المنزوعة الى رئيس مجلس الوزراء الذي خصه الدستور بموجب احكام المادة 64 بصلاحيات خاصة ومهمة جداً، وترك لرئيس الجمهورية بعض quot;الفتاتquot; من الصلاحيات المحدودة في المواد 51 و 52 و53 و54 و55 و56 و57 و58 و59 التي يمارسها بمشاركة رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء المختصين ما عدا بعض الصلاحيات الخاصة به كمرسوم قبول استقالة الحكومة ومرسوم تعيين رئيس الوزراء.

واذا أخذنا المادة 50 من الدستور فانها أوجبت على رئيس الجمهورية إثر انتخابه وقبل مباشرة مهماته، حلف اليمين الدستورية على صيغتها، مما يدل ان الدستور جعل من رئيس الجمهورية اللبنانية حامياً للدستور ولاحكامه ومبادئه، ومحافظاً على استقلال لبنان وسلامة أراضيه ساهراً على كيانه، وقد جرت العادة ان يلقي الرئيس فور انتخابه quot;خطاب القسمquot; أمام مجلس النواب والذي يتضمن الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي اتباعها والمبادئ والاعمال التي ينوي تنفيذها.

الا ان التعديل الدستوري في 1990 ناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء، مما يعني انه اعطى مجلس الوزراء ورئيسه حق رسم سياسة الدولة ولم تعد من صلاحية الرئيس او من مهماته، لذلك فان خطاب القسم لا يمكنه أن يلزم الحكومة الجديدة بسياسة محددة، ولا قيمة له ما لم يستطع الرئيس أن تكون له حصة مناسبة من الوزراء المحسوبين عليه داخل الحكومة.

عانى موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية في السنتين الماضيتين ضعفاً شديداً لم يشهده منذ ولادة دولة لبنان الكبير، وقد تبين بشكل واضح ان الطائف أتى ليقضي على التوازن في لبنان وليعطي غلبة لطائفة على أخرى. وهكذا نجد في لبنان ان هناك صيغة غالب ومغلوب دائماً، والطائفة التي تكون في الحكم تحاول تهميش الآخرين واقتناص حقوقهم وهذا ما يؤدي الى النزاعات والشعور بالغبن والاقصاء والوقوع في الازمات فترة تلو الاخرى. فالاستئثار والتهميش والغلبة لا يمكن ان تؤدي الا الى مزيد من النزاعات والانقسامات السياسية الداخلية، خاصة اذا ما اقترنت بالاستقواء بالخارج ضد الافرقاء الداخليين.

وهنا نطرح السؤال الذي لا بد منه أما آن الاوان لحل يحفظ حقوق الجميع على اساس المواطنة؟ فان لم يكن ذلك ممكنا اليوم، فلماذا لا نلغي الاستئثار ونحقق الشراكة الكاملة بين فئات الشعب وطوائفه كافة؟ ان العدل يقيم الاستقرار والظلم مدخل الى الفتن والحروب ولا يكون عدل مع استئثار وتهميش.