توماس فريدمان - نيويورك تايمز

لقد كان عليَّ أن أضحك أولاً لأبكي أخيراً. فقد كنتُ بين حضور حفل التخريج الذي أقامه quot;معهد رينسلير الفنيquot; الذي يعد واحدة من بين أميز مؤسسات التعليم العالي التقني المتخصصة في مجالات الهندسة والعلوم في الولايات المتحدة الأميركية، وكنت قد حظيت بمقعد أمامي بين الحضور، ونحن نرقب جميعاً الطلاب المتخرجين وهم يصعدون إلى منصة المسرح لتسلم شهاداتهم، مع العلم بأنهم كانوا جميعاً من المتخرجين الذين حازوا درجة الدكتوراه في هذه التخصصات. يذكر أن quot;شيرلي آن جاكسونquot; رئيسة المعهد، هي التي سلمت الطلاب المتخرجين شهاداتهم الأكاديمية. أما السبب الذي يدفعني إلى الضحك فهو أن جميع المتخرجين كانوا من الأجانب تقريباً فيما بدا لي. فقد طرقت أذني الأسماء الأجنبية أثناء صعود أصحابها الواحد تلو الآخر، بعد أن يعلن المذيع اسم الطالب المتخرج عبر مكبرات الصوت: quot;هونج لوquot;، quot;خو خيquot;، quot;تاو يونquot;، quot;فو تانجquot;... إلى آخره. وخطر لي في بادئ الأمر أن جميع طلبة الدكتوراه في علم الفيزياء كانوا من الصينيين، إلى أن أعلن المذيع عن اسم quot;بول شين موروquot; الذي أنقذ تلك اللحظات. إلا أن الحفل كله كان أشبه برسم كاريكاتوري ساخر، أطلقت عليه quot;جاكسونquot; نفسها صفة quot;الأزمة الصامتةquot;. ذلك أنه وما أن ينظر المرء إلى واقع التعليم العالي، وخاصة فوق الجامعي، في تخصصات العلوم هنا في الولايات المتحدة الأميركية، حتى تسيطر عليه رغبة لا تقاوم في الضحك.
ولكي لا يساء فهمي، فإنني لأفخر بأن بلادنا لا تزال قادرة على بناء الجامعات وتوفير ثقافة تعليمية أكاديمية، قادرة على جذب أفضل عقول العالم وأكثرها نباهة. غير أن شكواي -وهو ما يحملني على البكاء حقاً- هو لمَ لم يكن هناك ممثل من سلطات الجنسية والهجرة بجوار quot;جاكسونquot; لكي يثبت بطاقة إقامة دائمة quot;خضراءquot; في كل شهادة من شهادات الدكتوراه التي كانت توزعها على الطلاب المتخرجين الأجانب؟ فقد كنت أريد لهم البقاء والإقامة في بلادنا، ليصبحوا أميركيين ويواصلوا أبحاثهم وابتكاراتهم هنا في بلادهم الجديدة. فإن كنا قد عجزنا عن تعليم أولادنا وبناتنا بما يكفي لرفع قدرتهم التنافسية في هذه العلوم والتخصصات، فلمَ لا نحرص على جلب هذه العقول من الخارج، حتى نتمكن من الحفاظ على مستوى الحياة التي نعيشها. إنه لغباء ما بعده غباء، ألا يفتح الكونجرس حدود بلادنا مشرعة أمام أفضل العقول والمواهب الإبداعية الخلاقة في مختلف المجالات، خاصة ونحن الآن في عصر يتسم بتوفر أدوات الإبداع والابتكار ذاتها للجميع، بينما يظل الحد الفاصل في استخدام هذه الأدوات، هو الموهبة الإنسانية. وإنني لجاد كل الجدية فيما أراه من أن تمنح الجنسية الأميركية لكل من يحصل على درجة الدكتوراه في بلادنا، في أي تخصص كان. ولهذا فما أغبى جعل استمرار إقامة هؤلاء بعد تخرجهم، أمراً في غاية العسر والمشقة! يذكر هنا أن ائتلاف quot;كومبيت أميركاquot; وهو ائتلاف يضم الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا، قد تقدم بالتماس رسمي إلى الكونجرس، يدعوه فيه لاستصدار تشريع يسمح باستقدام العمال المهرة من خارج الحدود، إلى جانب السماح بإصدار quot;البطاقة الخضراءquot; بغرض الاستقدام للتوظيف، خاصة بالنسبة للعاملين في مجال التقنية المتقدمة. وفيما لو صدرت هذه التشريعات، فإنه لن يكون في وسع هذه العمالة الماهرة الوافدة سد الشواغر الوظيفية الهندسية والتقنية التي لا نستطيع نحن ملأها فحسب، وإنما سيكون في وسعها إنشاء الكثير من الشركات مستقبلاً، مما يوفر سوقاً جديدة كاملة للعمالة. وليس أدل على هذا من تجربة quot;سليكون فاليquot; الذي لا يزال المكان الأفضل للتوظيف في هذه المجالات.
أقول لكم أصدقائي: إنه لم يعد في وسعنا الاستمرار في غبائنا الحالي في مثل هذه الأمور. فأين نكون نحن في عالم يسيطر فيه الطلاب الأجانب على تخصصاتنا ودراساتنا فوق الجامعية في مجال العلوم والتكنولوجيا، وعلى معامل البحث العلمي، وكذلك على دوريات النشر العلمي؟! فما أسهل أن يعود هؤلاء إلى بلدانهم التي أتوا منها لينشئوا شركات ويحدثوا ابتكارات وإبداعات تقنية منافسة لنا في كل شيء، خاصة وقد هبطت بلادنا من المرتبة الرابعة عالمياً في مجال استخدام شبكة الإنترنت حتى عام 2001، إلى المرتبة الخامسة عشرة اليوم.
ومن هنا فإنني أحيي كلاً من quot;أندرو راسيجquot;، وquot;ميكاه سيفريquot;، المشاركين المؤسسين لـquot;منتدى الديمقراطية الشخصيةquot;. فهما يحاولان جعل قضايا الهوة الرقمية والنقص الرقمي، جزءاً من قضايا الحملات الانتخابية الرئاسية، ويطالبان المرشحين بالتركيز في حملاتهم على سد هذه الفجوة. وقد أنشآ لهذا الغرض بالذات، موقعاً إلكترونياً على الشبكة هو:
www.techpresident.com. وكان quot;راسيجquot; قد دعا في عام 2005، إلى خفض تكلفة الاتصال بالشبكة للجميع، ولاحظ أن خدمات الموجة الواسعة، لا تغطي سوى نصف الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك فإن من رأيه أن أميركا في أمسِّ الحاجة للانتقال من شعار quot;علينا ألا نترك طفلاً واحداً خارج قاعات الدرسquot; إلى شعار quot;علينا توصيل كل طفل بالشبكةquot;. غير أن الحقيقة المؤلمة، أن هجمات 11 سبتمبر وهذه الحرب الخائبة التي نخوضها في العراق، قد امتصتا تقريباً كل ما تبقى من ذرات أوكسجين لمناقشة القضايا الأكثر جدية وإلحاحاً هنا مثل التعليم، والرعاية الصحية، والتغير المناخي، والقدرة التنافسية الأميركية. ولهذا السبب فإن علينا أن نعجِّل بوضع حد لائق لهذه الحرب، وإلا كان حصادنا منها: خسارة العراق وأميركا معاً.