زهير المخ

من غرفة متواضعة في زقاق ضيق في أحد أحياء النجف قرع المرجع الشيعي الأعلي آية الله علي السيستاني علي أبواب عراق ما بعد نظام صدام حسين معلناً وجوده ومطالباً الآخرين بالاعتراف بمرجعيته العليا، وبدا باكرا أنه يتقن استخدام quot;سلاح الدينquot; في اللعبة السياسية الداخلية، ويمارس إستراتيجية quot;الغموض المتعمدquot;، يوحي أكثر مما يوضح، ويقلق أكثر مما يريح. إنه بالأحري رجل غموض وألغاز، يتصرف سراً ويحيط نفسه بالأحاجي.

اختار السيستاني التحصّن بين الرموز من دون أن يبدي رأياً واضحاً في شأن بعض التصريحات المنسوبة إليه يطلقها متحدثون باسمه تطالب الجمهور الشيعي بquot;ضبط النفس والتزام الهدوء وتجنب أي تصعيد للعنفquot;، لكنه من جهة أخري ظل يراقب عن كثب مسألة الصراع الخفي حيناً والمعلن حيناً آخر بين القطبين الشيعيين المتنافسين، مقتدي الصدر وعبد العزيز الحكيم، ملحاً علي دور مفصلي للمرجعية العليا في هذا المضمار، وكأنه اندفع لحجز مقعد لها في مكان أصبح فارغا يتسابق مع الآخرين لاحتلاله، إلا أنه جاء بعموميات لا يصح البتة وصفها ببرنامج محدد أو حتي مقدمات برنامج سياسي.

وبما أنه نادراً ما تغيب عن الحالة الشيعية العراقية المفاجآت، فقد برز مقتدي الصدر إلي واجهة المشهد الشيعي ليمثل quot;حوزة ناطقةquot; ليس فقط في مواجهة quot;حوزة السيستاني الكتومةquot;، بل وفي رفض الوجود العسكري الأجنبي ومقاومته أيضاً، خصوصاً حين اختار اللجوء إلي لعبة الرموز في مواجهته المتصاعدة مع الأمريكيين، مفضلا أن يضع جزءاً من طائفته علي خط التماس مع القوات الأمريكية، وأن يخوض حرب شوارع علي مقربة من مرقد الإمام علي في مدينة النجف وفي مدينة الصدر.

وبالطبع كان من الصعب علي آية الله السيستاني أن يرافق الشاب المتحمس في اندفاعته غير المحسوبة التي باتت تنذر بتهديد مكاسب مضمونة للشيعة، فقد بدا أن مقتدي الصدر يدفع لتنفيذ انقلاب من داخل الطائفة الشيعية ويضعها في فوهة المدفع، وكان من غير المنطقي بالنسبة للسيستاني كذلك أن يغسل يديه من شاب يقود آلافاً من المهمشين والناقمين الذين أبدوا استعداداً للدفاع عن الرموز.

أدرك آية الله السيستاني بعمق أن مقتدي الصدر تحول بطريقة أو بأخري إلي شخصية قادرة علي quot;إرباكquot; اللعبة السياسية، فهو لا يستطيع الانحناء أمام مطالب الصدر الذي صارت قوته تهديداً لهيبة المرجعية العليا نفسها، وبالتالي لم تتوان الأخيرة في طرح ورقة quot;الحيادquot; التي وجدت صدي واسعاً لدي الجمهور الشيعي الذي استنفر طاقاته في التعبير عن تأييده للمرجعية التي استثمرت هذا المناخ المستجد لتعزيز شرعيتها ووجودها السياسي.

لكن سياسة الغموض المتعمد ظلت أحد الثوابت التي تمسك بها آية الله السيستاني في أعمال القتل التي ترتكبها مليشيا جيش المهدي ضد أهل السنة. وكان موقف المرجعية الحذر من هذه المجازر تجسيداً لهذه السياسة، ربما بانتظار فرصة مواتية أتاحها اقتراب تطبيق الخطة الأمنية الجديدة واختفاء رموز quot;التيار الصدريquot; عن الساحة العراقية ولو إلي حين، الأمر الذي منح السيستاني القدرة علي فرض نفسه لاعباً معتدلاً لن يستطع أحد بعد الآن تجاهل دوره المركزي في اللعبة السياسية الداخلية.

أثبت آية الله السيستاني أنه صياد بارع يعرف كيف يطلق ناره في الوقت الملائم والاتجاه المناسب، وأصبح بالفعل سيد الموقف بلا منازع، تندفع التيارات السياسية المختلفة للاختباء تحت عباءته وتتلقف وكالات الأنباء تصريحاته، علي الرغم من أنه لا يلتقي برجال السياسة ولا يتحدث للصحافيين إلا لماماً، وهو أسلوب يندرج أيضاً في إطار استراتيجية الغموض المتعمد ، ذلك أن الرجل الصامت القابع في صومعته في النجف هو في الوقت ذاته كثير الكلام حين يتسابق آخرون في التصريح باسمه للعب الأدوار المتباينة.

وكثيراً ما يتخذ هؤلاء مواقف غامضة أو متناقضة، وليس من المبالغة في شيء القول إنه بات علي يد وكلائه نسخة مكررة من سياسة لعم التي يحتفظ بحقوق ملكيتها الفكرية الراحل ياسر عرفات. حيث يفاجأ العراقيون بين الفينة والأخري بتصريح يدعي صاحبه بأن آية الله السيستاني قاله، وما أن تمر فترة زمنية حتي يقول السيستاني نفسه أو أحد المقربين منه إنه لم ينطق بمثل هذا الرأي، ربما ليس من باب ممارسة لعبة الغموض المتعمدة فحسب، بل قد يكون ثمة توزيع للأدوار في إطار الحلقة الضيقة المحيطة به أيضاً.

وفي إطار هذه التصريحات المتناقضة، يستطيع المرجع الشيعي الأعلي أن يختفي أو يظهر علي سطح الأحداث ساعة يشاء وكيفما يشاء. فعلي سبيل المثال، برزت هذه المهارة في أجلي صورها في التصريحات التي نقلت علي لسان آية الله السيستاني من مسألة المشاركة في الانتخابات العامة التي جرت في أواخر يناير (كانون الثاني) 2005، حين تم تهديد المقاطعين بنار جهنم، وهو أحد التصريحات التي جري تأكيدها ونفيها بأشكال متعددة.

وفي معزل عن المبالغات التي رافقت الحملة الانتخابية، فقد كانت التصريحات المنسوبة للمرجع الشيعي الأعلي عن الانتخابات أشد تأثيراً علي ترجيح كفة قائمة الائتلاف العراقي الموحد بعد أن راجت تصريحات مفادها أن آية الله السيستاني بارك القائمة الشيعية، ثم ظهرت في ما بعد تصريحات مناقضة مفادها أن السيستاني ينأي بنفسه عن التدخل في دعم تحالف دون الآخر، وانه ليس معنيا بالانخراط مباشرة في لعبة الانتخابات، لكن هذه التصريحات جاءت بعد أن وقع الفأس بالرأس كما يقول المثل الدارج، وحصلت قائمة الائتلاف الشيعي علي دعم أغلبية شيعة العراق، وهو ما عكس نفسه في الفوز الذي حققته في السباق الانتخابي.

وبما أن تفكك قائمة الائتلاف العراقي الموحد هو احتمال غير مستبعد، لاسيما أن التنافر بات جلياً بين أقطابها الرئيسيين، فإن اللافت هو دخول آية الله السيستاني مرة أخري علي خط قائمة الائتلاف، وإن بشكل غير مباشر، بهدف إضفاء مزيد من التماسك للكتلة الشيعية، بما فيها مباركته ، المباشرة هذه المرة، لاختيار الائتلاف الشيعي للمالكي لرئاسة الحكومة القائمة.

وبالرغم من أن البعض يعتبر السيستاني بمثابة صمام أمان للعملية السياسية الجارية في العراق الآن، فإن استمرار الغموض في نهجه السياسي يسمح للاعتقاد بأن تمسكه بهذا النهج ليس سوي نوع من لعبة الرموز ، فهو رجل ينقل عنه لكنه لا يتحدث، مما يتيح له لاحقاً تأكيد ما يبتغيه أو نفيه، حسب الحاجة وحسب الظروف.

وهو يظل في كل الأحوال الرجل المسيطر علي كل شيء من دون حضور مباشر، بل أن حضوره غير المباشر أقوي من حضوره المباشر. السؤال هو: هل يستطيع آية الله السيستاني الاستمرار في هذه اللعبة في المرحلة المقبلة؟ ليست الإجابة علي كل حال سهلة، إلا أن شخصيته ستظل تربك الجميع طالما بقي بعيداً عن الصورة، وحاضرا بقوة وإن عبر وسطاء، ربما لأنه سيدخل التاريخ باعتباره المرجع الشيعي الأخير.