د. باقر النجار


لا تبدو المقاربة بين الحالة الليبرالية في مواطنها الأصلية في أوروبا وحتى في بعض مواقع العالم الأخرى كأوروبا الشرقية وبعض دول شرق وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية وحالة الليبرالية الخليجية وربما العربية في جلها دقيقة. أو بتعبير آخر إن اختلاف السياقات والظروف، التي نشأت وترعرعت في أطرها الليبرالية الأوروبية ولربما حتى تلك في بعض المواقع الآسيوية قد جعلت من الليبرالية هناك حركة مجتمعية تشكلت في ظلها حركة المجتمع والدولة على حد سواء.

إلا أن هذه الحركة بدأت متلكئة بل ومتقهقرة في التبلور والتشكل في الكثير من البلاد العربية رغم ولوجها، أي الليبرالية كقيم وتوجهات، المبكر لحدودها الجغرافية في نهايات القرن التاسع عشر، وهو الأمر الذي لم تبدأ مجتمعات الخليج العربي بالتعرف عليه إلا في نهايات النصف الأول من القرن الماضي(العشرين)، أو قبل ذلك بقليل أو كثير، ولربما قد تشترك معها بعض الحالات العربية: المشرقية منها والمغربية.

فرغم ارتفاع معدلات التعليم وشموله، ورغم التزايد المضطرد في أعداد سكان الحضر وتناقص الأرياف، ورغم التمتع والاستهلاك الكبير للتقنيات الحديثة وتوظيفاتها المختلفة، ورغم التطور في استخدام وسائط الاتصال والتواصل الحديثة، إلا أن كل ذلك لم يسعف الليبرالية كحركة وجماعة من أن تشكل السياق العام الحاكم لحركة المجتمع وبالتالي توجهاته وتوقعاته.

لقد جعلت التحولات السياسية والاقتصادية التي جاءت على المنطقة العربية منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن، من الليبرالية وlaquo;التربللraquo;، أي تبني الليبرالية في الفكر والممارسة، جيوبا اجتماعية وأخرى سياسية ولربما اقتصادية تفتقر للقدرة على توجيه الأحداث أو في بعض الأحيان القدرة على التأثير في صناعة أو صانعي القرار، أو بتعبير أدق بدت الليبرالية كجماعة أو حركة عاجزة عن أن تشكل تيارا فكريا فاعلا ومؤثرا في الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي العام.

وقد يكون هذا نتيجة لافتقار المنطقة للأساس الفكري والمعرفي والثقافي المشكل للطبقة الوسطي، بل إن الطبقة الوسطى باتت بفعل متغيرات عديدة تمثل ثقل الجماعات الإسلامية وأحد أهم القوى المشكلة لقوتها. وقد يضاف إلى كل هذا وذاك، سيادة العوامل الأثنية والدينية ولربما تنامي الاستقطاب المذهبي والطائفي التي وفقهما تم تعميق الانشطار والتمزق في المجتمع العربي، ونتيجة لذلك لم تعد الأطر الفكرية والأنساق القيمية، فضاءات جامعة للناس والمجتمع.

بل على العكس من ذلك أصبحت الانتماءات والمرجعيات الأثنية أقوى من أي انتماء فكري أو توجه سياسي حداثوي. وتزخر المنطقة العربية من العراق مرورا بلبنان وسوريا ومصر والخليج واليمن وغيرها من البلاد العربية بشيوع النوازع التقليدية التي باتت فيها الانتماءات المذهبية والطائفية تحديدا تقوى على أي اتجاه أو نزوع سياسي آخر.

بل باتت هذه النوازع والتوجسات سهلة الاستثارة والاستثمار من رموز سياسية داخل مؤسسات الحكم العربية أو معارضيها، بحثا في ذلك عن قدر من التعاضد السياسي القائم على التعاونيات أو التعاضديات المذهبية والطائفية أو عن شرعية سياسية، وإن حمل بعضهم الليبرالية كإطار للممارسة الاجتماعية.

وتكفي الإشارة إلى أنه رغم الحالة الليبرالية العامة التي قد يتسم بها مثلا تيار المستقبل اللبناني في بعض رموزه ولربما توجهاتهم الاجتماعية والسياسية، إلا أن الكل لم يمنعه من توظيف المسألة المذهبية ولربما الطائفية في مقارعة الآخر الذي هو الآخر ليس بعيدا في تحالفه عن هذا التوظيف، بل إن تحالفه بدا في جله قائما على التعاضد المذهبي.

ولظني إن أحد أهم معوقات استواء الليبرالية كسياق ثقافي حاكم للتوجهات والتوقعات، في عموم مجتمعاتنا العربية هو أن الدولة العربية في جلها رغم انتساب بعض أو جل رموزها لما قد يسمى تجاوزا بالليبرالية العربية، إلا أنها تبقى تلك التوظيفات الميكافيلية للدين في السياسة سواء أكان ذلك ضد أو مع الآخر المحلي أو الخارجي.

ومحاولات استحضارها الدائم والدءوب للرابط أو الروابط التقليدية الحاكمة لتوزيع القوة والتراتب والمكانات في المجتمع، واستدعاء المؤسسة الدينية ووقت الحاجة للعب أدوار سياسية لتجاوز مأزق الشرعية، أهم أسباب تعوق تشكل الليبرالية كسياق قيمي وثقافي حاكم ومؤثر في الأفراد والمجتمع. ولنا في ذلك عودة أخرى قريبة.