محمد عارف


أقيلَ نوري المالكي لإخفاقه في تمرير quot;قانون النفطquot;، واستدعى جورج بوش الشخصَ المُرّشحَ ليخلفه في منصب رئيس وزراء العراق، وسأله: quot;ماذا ستفعل إذا عارَضَتْ نقابات النفط قانون النفطquot;؟.. قال المُرّشحُ: quot;ألغي النقاباتquot;. سأله بوش: quot;وإذا عارضه مهندسو النفطquot;؟.. قال: quot;أعتقلهمquot;. ثم سأله: quot;وإذا عارضه البرلمان أيضاًquot;؟ أجاب: quot;أحلّ البرلمانquot;.

وسأله: quot;وماذا تفعل إذا عارضه أعضاء مجلس الوزراءquot;؟.. قال: quot;أعدم رئيس الوزراءquot;! هذه نكتة، وما يسمى quot;قانون النفط العراقيquot; حافل بالنكات. أول نكات القانون عنوان طبعته الأميركية: quot;قانون عدالة تقاسم ثروة العراقيين الهيدروكربونيةquot;. يقع القانون في 33 صفحة، ولا ذكر للعدالة سوى في فقرة واحدة. لاحظ ذلك quot;دينيس كويسينيتشquot;، عضو الكونغرس عن quot;الحزب الجمهوريquot;. وذكر كويسينيتش، المرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية القادمة، أن quot;الصياغة الهيكلية المعقدة للقانون مقصودة بهدف خصخصة النفط العراقيquot;.

وأعقدُ ما في صياغة quot;قانون النفطquot; هي صياغاته المتعددة. فلا أحد يعرف عند الحديث عنه، ما إذا كان المقصود النسخة المعدّلة التي صدرت عما يُسمى quot;مجلس شورى الدولةquot;، أم النسخة التي جرى تعديلها، أو تلك التي وافق عليها مجلس الوزراء، أو النسخة التي وضعها ثلاثة خبراء عراقيين، أنكرها اثنان منهم فيما بعد، أو النسخة quot;الأصليةquot; للقانون والتي تقاضت عن وضعها وتسويقها شركة quot;بيرنج بوينتquot; الأميركية، مبلغ 240 مليون دولار؟

وقد تضمنت نسخة quot;مجلس شورى الدولةquot; 13 تعديلاً على النسخة التي يُفترض أن يصادق عليها ما يُسمى quot;مجلس النوابquot;. وتنقض هذه التعديلات في الحقيقة القانون الذي خصّ quot;شركة النفط الوطنية العراقيةquot; بدور كبير، وهي quot;لم تؤسس بعدُ، ولم يصدر قانون بتأسيسها وتنظيم أعمالهاquot;. وأكد quot;مجلس شورى الدولةquot; وجوب إعداد قانون quot;شركة النفط الوطنية العراقيةquot; وتشريعه قبل نفاذ قانون النفط والغاز، وتساءل: quot;كيف يمكن إقرار قانون النفط، ولم يُقرّ بعد قانون شركة النفط الوطنية، ولم تُعرف ما هي نماذج العقود التي يشير إليها مشروع القانونquot;؟

وعندما يتعلق الأمر بمصادقة quot;مجلس النوابquot; على quot;قانون النفطquot;، فإن quot;الأحمق العارف أكثر حُمقاً من الأحمق الجاهلquot;، حسب الأديب الفرنسي الهزلي موليير. فما قيمة المصادقة على نص القانون الذي اعترضت عليه جهات قانونية دستورية، وحُذفت منه الملاحق الأربعة التي تحدد الحقول المنتجة والمكتشفة والحقول غير المطورة والقريبة من مراكز الإنتاج... وهي مسائل تمس السيادة الحقيقية للشعب العراقي على ثرواته النفطية؟ ولماذا أغفل القانون قطّاع الصناعات التحويلية، الخاصة بتصفية النفط، وتوزيع مشتقاته، وإنتاج الغاز؟ وكيف يمكن المصادقة على quot;قانون النفطquot; قبل quot;قانون الموارد الماليةquot; الذي سيقرر طريقة توزيع جميع موارد الدولة من النفط ومشتقاته، ومن الضرائب والجمارك والمكوس؟ وهل يجوز دستورياً المصادقة على القانون قبل حسم التعديلات الدستورية، وضمنها الفقرات الخاصة بالنفط والغاز؟

هذه أهم الأسئلة التي يطرحها عمال وعلماء ومهندسو العراق العاملون في النفط. لخصت ذلك مذكرة رفعها إلى quot;مجلس النوابquot; 108 من مسؤولي وخبراء النفط والاقتصاد والقانون، بينهم عشرة وزراء ووكلاء وزارات سابقون، بعضهم معروفون على صعيد صناعة النفط العربية والعالمية، كرشيد الرفاعي، وعصام الجلبي، ومحمد الجبوري، وقحطان العنبكي، ومازن جمعة، وفيصل التميمي... وأكثر من نصف الموقعين على المذكرة رؤساء جامعات، ومؤسسات نفطية، ومدراء عامون سابقون. وبين الموقعين شخصيات معروفة على صعيد الأمم المتحدة، كعبد الأمير الأنباري، ممثل العراق في مجلس الأمن خلال التسعينيات. وخلافاً لكذب الأحزاب الطائفية حول معارضة السُّنة فقط للقانون، تدل أسماء الموقعين على أنهم يمثلون جميع قوميات وأديان ومذاهب العراق وعقائده السياسية والفكرية. فالقانون يتعلق بوجود العراق وسلامة العراقيين، وليس بما يُسمى quot;عقود المشاركة في الإنتاجquot; أو غيرها من قضايا فنية، قد يمكن الاجتهاد فيها وفق الظروف والمواضعات. أشار إلى ذلك أحد الموقعين على المذكرة، وهو المهندس سعدالله الفتحي الذي ارتبط اسمه بإنشاء quot;مصفاة بيجيquot;، أكبر منشآت تصفية النفط في المنطقة خلال ثمانينيات القرن الماضي.

ولا اجتهاد فيما يتعلق ببقاء العراق وسلامة العراقيين. يكشف عن ذلك الحجم المدهش للوثائق والمعلومات التي يطرحها عمال وعلماء ومهندسو وخبراء النفط والاقتصاد والقانون، وعاطفتهم الوطنية العابرة للحدود الإقليمية والعرقية والمذهبية والدينية والفكرية... عاطفة مشبوبة ينبض بها كتاب مهندس النفط فؤاد قاسم الأمير الذي ترجمتُ دراساته إلى الإنجليزية واستشهدت بها quot;نيويورك تايمزquot; وغيرها من الصحف العالمية. نبّه المهندس الأمير في مقدمة كتابه الصادر مؤخراً بعنوان quot;ثلاثية النفط العراقيquot;، إلى عمليات تدمير quot;المنشآت الصناعية الجبارة في وزارة الصناعة والمعادن العراقية، ومنها صناعات حيوية جداً لأغراض النهوض بالاقتصاد، مثل صناعة الأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية، والبتروكيمياويات، وصناعة الإسمنت ومواد البناءquot;، وأشار إلى أن هذه الصناعات التي توفر معيشة أكثر من نصف مليون عائلة، كانت قد عانت من التدمير في حرب عام 1991، ومن التدمير غير المباشر بسبب المقاطعة الاقتصادية.

ويشكل كتاب quot;ثلاثية النفط العراقيquot; الصادر عن quot;دار الغدquot;، وثيقة إدانة جرميه للقادمين على متن الدبابات الأميركية، والذين ساهموا في تدمير الصناعة والاقتصاد العراقيين. فهو يتضمن تفاصيل من مصادر أميركية رسمية عن جهودٍ بُذلت منذ اليوم الأول للاحتلال لإكمال هدم الصناعة العراقية، وإنهاء المعامل، وتعريضها عمداً لعمليات النهب التي يطلق عليها العراقيون اسم quot;الحواسمquot;. ويذكر الأمير أن 14 خبيراً عراقياً -لا يكشف أسماءهم- عملوا لحساب quot;الخارجية الأميركيةquot; التي وقفت بضراوة ضد أي محاولة لتشغيل المعامل. وعندما اقترح مسؤول عسكري أميركي تشغيل المعامل quot;لتجفيف مستنقعات الإرهاب، وإعادة مئات الألوف من العراقيين إلى العملquot;، طلبت quot;الخارجيةquot; من المخابرات المركزية quot;دراسة موضوع علاقة عدم تشغيل المعامل بالإرهاب، وجاءت الدراسة على هواها، تنفي وجود أي علاقةquot;!

وعندما يتعلق الأمر بالنفط، لم ير المحتلون وأعوانهم بعدُ شيئاً من العراقيين، ولم يَرَ العراقيون أنفسهم بعدُ شيئاً من أنفسهم. فالمقاومة المسلحة التي دخلت عامها الخامس، هي الجزء الظاهر من جبل الجليد الغائص عميقاً في قلوب وعقول العراقيين. تدل على ذلك التحولات التي طرأت على حركة عمال النفط. تحدث عن ذلك حسن جمعة عوّاد الأسدي، رئيس quot;اتحاد نقابات النفط في العراقquot; خلال لقاءات عقدها في لندن ممثلو المجتمع العراقي والبريطاني المناهض للاحتلال. تأسّس الاتحاد، كنقابة مهنية، في البصرة بعد الاحتلال، ويضم حالياً أكثر من 26 ألف منتسب. وفي العام الماضي حقق العمال السبق على مهندسي وخبراء النفط حين عقدوا أول ندوتين علميتين ضد quot;قانون النفطquot;، ويستعدون حالياً لعقد الندوة الثالثة. وخاض عمال النفط أول الإضرابات العمالية تحت ظل الاحتلال، ويتوقع أن يخوضوا ما يمكن أن يصبح أخطر معركة في تاريخ البلد. وحول توقعاته عمّا سيفعله عمال النفط في حال المصادقة على القانون، قال الأسدي باللهجة العراقية: quot;إحنا نعجبكمquot;، أيْ quot;ستجدون ما يسركمquot;!