خالد عايد الجنفاوي

التراجع الملحوظ في حماس الإدارة الاميركية لسياسة نشر الديمقراطية الاميركية في الشرق الأوسط, يعد من أكثر الأمور التي تحظى باهتمام المفكرين والمحللين السياسيين في الوقت الراهن, خاصة أن هذه السياسة بدت للوهلة الأولى وكأنها غير قابلة للنقاش أو للتراجع من قبل الإدارة الاميركية التي حشدت كافة إمكاناتها الضخمة (المادية والعسكرية والإعلامية) للترويج لهذه السياسة, ومارست بها ومن أجلها كل أنواع الترغيب والترهيب على دول المنطقة.
وفي هذا السياق نشرت اخيرا دورية (واشنطن كوارترلي) الفصلية دراسة مشتركة للمفكرين الشهيرين فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ) والكاتب مايكل ماكفول بعنوان: (هل ينبغي تشجيع الديمقراطية أم إهمالها?) تأتي فيما يبدو في سياق سعي الكاتبين لإقناع الإدارة الاميركية بأهمية هذه السياسة في حفظ أمن الولايات المتحدة والعالم. فعلى الرغم من رصد هذه الدراسة لتراجع الإدارة الاميركية عن سياسة ترويج الديمقراطية, والانخفاض في التأييد الشعبي لهذه السياسة, إلا أنها تؤكد أن الولايات المتحدة ينبغي أن تستمر في ترويج الديمقراطية ولكن من خلال ستراتيجيات جديدة ونماذج أفضل لتحقيق هذا الهدف.
وللتأكيد على وجهة نظر الكاتبين المؤيدة والداعمة لهذه السياسة عمد الكاتبان فوكوياما وماكفول إلى ذكر العديد من الأسباب والمبررات الداعية لذلك, ومنها احتجاجهما بحقيقة أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً (نظرية السلام الديمقراطي), مذكرين بأن كل أعداء الولايات المتحدة هم إما من الأنظمة الأوتوقراطية أو من الجماعات السياسية التي تتبنى فكراً متطرفاً وكلاهما يفتقر للديمقراطية, كما أن تجارب تحول بعض الدول الأوتوقراطية القوية إلى ديمقراطية (مثل اليابان وألمانيا والاتحاد السوفييتي) خدمت المصلحة القومية والأمن القومي الأميركي بشكل واضح وكبير, وأوضح الكاتبان أيضاً أنه وبرغم القلق الذي يبديه البعض من أن يؤدي التغير السياسي في الدول الحليفة الأوتوقراطية إلى ظهور أنظمة تعادي المصالح الاميركية خاصة مع وجود تهديد أيديولوجي عالمي جديد يتمثل في الحركات الإسلامية الراديكالية, فإن الثابت عملياً أن هذه أن الإجراءات الديمقراطية لم تجلب أبداً إلى السلطة حكومة تشكل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة الأمنية أو حلفائها بصورة مباشرة. ولذلك وعلى المدى البعيد فإن تطبيق الديمقراطية في الشرق الأوسط سيجعل الولايات المتحدة أكثر أمناً, وسيعطي الشرعية للحكومات الديمقراطية, وسيؤدي إلى خفض نسبة الإعجاب بالحركات الإرهابية والمتطرفة.
وفي معرض رد الكاتبين على معارضي فكرة فرض هذه السياسة على الدول أكدا أن الديمقراطية هي ثقافة بالأساس وليست سلعة عالمية, وأن الترويج للديمقراطية لا يعني ضمناً فرضها على مجتمع لا يريدها, كما أن قيم حقوق الإنسان والمؤسسات الديمقراطية التي تنبع منها هي قيم عالمية بالأساس, مؤكدين أيضاً أن المثالية يجب ألا تتفوق على المصلحة الوطنية.
وخلص الكاتبان في نهاية الدراسة إلى نتيجة مفادها أن ترويج الديمقراطية يُعتبر الشيء الأمثل لخدمة المصالح الاميركية الستراتيجية. فالديمقراطية توفر أفضل شكل مؤسسي لمحاسبة الحكام أمام شعوبهم, وتمنع الحكم التعسفي, وتعيق الحكم السيئ, وتوفر آلية لإزالة الحكم الفاسد أو غير الفعال, علاوة على أنها توفر الاستعداد لوجود المنافسة السياسية, التي تقود تباعاً إلى حكم أفضل. كما تمِيل الديمقراطيات إلى توفير مزيد من الاستقرار الطبيعي والرفاهية الاقتصادية لشعوبها أكثر مما تقوم به الأوتوقراطيات. ولذلك يطالب الكاتبان واشنطن بالاستمرار في سياستها, ولكن باستخدام أساليب جديدة متدرجة تأخذ بالحسبان الظروف الداخلية لكل بلد وتنتهج الإصلاح السياسي الهادئ بعيداً عن التصعيد والتهديد باستعمال القوة.
ولعل ما يخلص إليه ويلمسه القارئ لهذا النوع من الدراسات هو مدى قدرة المروجين والمنظرين لهذه السياسات على الإقناع وحرصهم على سوق الأدلة المنطقية التي يجد المخالف صعوبة بالغة في ردها أو تفنيدها, على الرغم من كونها نظريات لا تستند إلى الواقع, وتعتمد على التاريخ أكثر من اعتمادها على معطيات الحاضر, وتغفل عن حقيقة أن التركة الثقيلة السيئة للإدارة الاميركية في هذه المنطقة ستحول بلا شك دون قبول شعوبها لأي سياسة أميركية مفترضة حتى إن كانت سياسة أفلاطونية بحسب الزعم. كما أنها تعقد وبصورة كبيرة الإجابة عن السؤالين المهمين اللذين تطرحهما شعوب المنطقة وهما: لماذا تراجعت الولايات المتحدة عن هذه السياسة بعد أن استولت على مقدرات العراق وأحكمت قبضتها على المنطقة? ولماذا لم تحارب لتطبيق هذه السياسة في أماكن أخرى من العالم خالية من البترول إن كانت تريد الخير للبشرية.. كل البشرية?