محمد الدعمي

للمرء أن يفترض أن المعادلة الأصعب والأكثر إستعصاء على الحل في عراق اليوم تتمثل في الحركة الصدرية ، أي في دور أتباع عالم الدين الشاب مقتدى الصدر من هؤلاء الذين إئتلفوا في تنظيم نصف عسكري يؤدي دوراً حاسماً لا غبار عليه. وكي تكون الفرضية أعلاه ممكنة الفهم والبحث، فإن على المرء تعزيزها بفرضيتين أخريين يمكن إستمكانهما في قلب آليات الأحداث الجارية اليوم، تلك الأحداث التي تسبب إحراجاً وإضطراباً لدى الجهات الفاعلة من صناع القرار، على الجانبين العراقي والأميركي؛ الفرضيتان الأخريان هما: (1) إن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن على علم بوجود حركة بهذا العيار الثقيل والواسع، أي أن ظهور الحركة الصدرية بعد سقوط النظام السابق كانت مفاجأة للإدارة الأميركية في كل من واشنطن وبغداد. لذا عاد الخبراء الأميركان إلى الخارطة السياسية العراقية التي جهزوا بها قبل الحرب لمراجعتها خشية عدم ملاحظة الصدريين بداخلها، فلم يجدوا للحركة أثراً يذكر ، كما أزعم. وأغلب الظن أن الذين رسموا الخارطة التي جُهز بها الأميركان قبل الحرب ظنوا، خاطئين، بإمكانية ضم الحركة الصدرية تحت أجنحة الأحزاب والحركات الأكثر شهرة في السابق ، كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. (2) إن النظرة الدونية التي خصت بها الحركة، بوصفها حركة quot;مشاكسةquot; ضعيفة يمكن القضاء عليها بعملية عسكرية مباغتة ومحكمة قادت إلى تقوية الحركة وتبلور أداتها العسكرية المسماة بـquot;جيش الإمام المهديquot;، الأمر الذي غدا واضحاً في الإخفاق بالقضاء على الصدريين في عملية النجف العسكرية الكبيرة على أيام رئيس الوزراء العراقي السابق، أياد علاوي.
وللمرء أن يتكهن بحجم الحركة وقدرتها على الحسم كذلك من خلال ملاحظة أن الهدوء الذي تميزت به الأوضاع الأمنية في العراق عبر الأشهر الماضية لا يمكن قط أن يحال إلى قدرات الجنرال بترايوس فقط، الذي حظي بـquot;كأس البطولةquot; بسبب تمكنه من استمالة بعض القبائل لمقاومة القاعدة في مناطقها ، ولا يمكن أن تحال كذلك إلى زيادة عدد القوات الأميركية التي أمر بها الرئيس جورج بوش للسيطرة على البقاع الأكثر سخونة في العراق. ربما يكون قرار مقتدى الصدر المهم بتجميد أنشطة جيش المهدي أثناء تلك الأشهر هو الأكثر حسماً والأكثر فاعلية في تحقيق المنجزات التي كان الجنرال بترايوس يتفاخر بها: فبدون تحييد جيش المهدي والحركة الصدرية، بقرار من مقتدى الصدر شخصياً، ما كان بالإمكان بلوغ ما تحقق من تهدئة. والدليل يتشكل تلقائياً في دور الحركة بعد تفجير المرقدين المقدسين في سامراء، إذ تبلورت فاعلية الأداة العسكرية لجيش المهدي على الأرض، كما تجسدت أبعاد الحركة على نحو لا ريب فيه، الأمر الذي يعكس ثقلها وقدراتها الفاعلة.
أما الصدامات العسكرية الجارية هذه الأيام في البصرة والمدن الجنوبية الأخرى، فإنها تمثل فشل الحركات والأحزاب الدينية الرئيسية في ضم الحركة الصدرية تحت جناحها، الأمر الذي يمكن أن يفسر الصراعات الشيعية/الشيعية هناك حيث يستهدف الصدريون مقار حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى وكوادرهما بشكل متواصل ، كناية عن الشعور بالخذلان وبخيبة الأمل، بإعتبار أن القضاء على الحركة الصدرية لا يمكن أن يفسر بدون رغبة أميركية تدفع نحو هذا الهدف. الأميركان، عملياً، يخشون تعاظم سطوة الحركة الصدرية في العراق، نظراً لأنهم قلقون من أن قوتها يمكن أن تقود إلى تأسيس نظام سياسي ثيوقراطي يسيطر عليه علماء الدين على نحو مقارب للنموذج الإيراني. كما أنهم يخشون تبلور سطوة الحركة بطريقة تجعلها هي المفتاح الوحيد والأوحد للإستقرار في العراق على نحو يذكرنا بسطوة حزب الله في لبنان ، إذ تدل الأحداث هناك بعدم إمكانية إستئصال شوكته وتجاوز دوره في اي ترتيب يهدف للإستقرار في لبنان.
إن مقتدى الصدر يعزز من قوته وقدراته بين فئات عريضة للغاية من الجمهور، خاصة في بغداد نزولاً نحو البصرة والفاو على رأس الخليج العربي. وهو ينجح بسرعة في هذا الإتجاه لعدد من الأسباب، وأهمها: (1) تراث عائلته الثر بالعقول الذكية ، مع إشارة خاصة لمحمد باقر الصدر الذي كان يملك عقلاً ذكياً ومتمرداً أهّله لتقديم مؤلفات محترمة من نوع (فلسفتنا) و(إقتصادنا) و(المصرف اللاربوي في الإسلام)، زد على ذلك دوره كمؤسس لحزب الدعوة الإسلامية، وهو الدور الذي قاده إلى الإعدام مع شقيقته. ثم تأتي ذكرى والده وأخوته الذين قتلوا على باب الجامع بعد سلسلة من الخطب الدينية التي شمت منها طموحات سياسية واسعة. (2) إن العقدة الأخطر تتمثل في هيمنة الحركة الصدرية وجيش المهدي على الأقاليم الأكثر أهمية إقتصادية في العراق ، حيث تتبلور هذه الهيمنة على شريان العراق الإقتصادي في المناطق الأكثر غنى بالنفط ، البصرة والعمارة، زيادة على بغداد، خاصة في مدينة الصدر التي تعد خزيناً مهولاً للطاقات العسكرية الشابة التي لو أرادت يمكن أن تفرض سيطرتها على بغداد بالكامل. (3) إعتماد مقتدى الصدر خطاباً مؤثراً يستنهض الروح المعنوية للفئات الأوسع من المجتمع العراقي، وهي الفئات التي كانت، طوال تاريخ الدولة العراقية الحديثة، ضحية للإستغلال والفقر والإضطهاد الطبقي والطائفي، الأمر الذي يبرر تقديمه نفسه في الأحداث الأخيرة كنصير للفقراء. إنه لا يتكلم عن أتباعه فقط ، وإنما يتكلم عن الفقراء والمحرومين والكادحين ، وهي لغة لا يمكن أن تذهب سدى دون أن تترك أثراً مدوياً في نفوس الغالبية العظمى من أتباعه ومؤيديه. وبذلك يفوز الصدر بحصة الشيوعيين في المجتمع العراقي، إذ كان الشيوعيون يوظفون هذا الخطاب لكسب الجماهير الفقيرة من المضطهدين ، خاصة على سنوات المد الشيوعي بين أواسط خمسينيات القرن الماضي حتى سنة 1963، حيث تعرض الحزب الشيوعي العراقي لحملة إبادة شاملة.
وبناء على ما تقدم، فإن للمرء أن يتكهن أن شيئاً من حل القضية العراقية لا يمكن أن يتحقق دون المرور بالحركة الصدرية وبأداتها المسلحة، جيش المهدي، علماً بأن هذه الحركة لم تزل لغزاً غامضاً بقدر تعلق الأمر بطبيعة تنظيمها وبطرائق تعريفها، فهل هي حزب سياسي سري أم أنها حركة سياسية يمكن أن تذوب بمجمل العملية الديمقراطية البرلمانية الجارية الآن. وهذه كذلك نقطة تثير الإهتمام، حيث أن هناك هواجس قوية في أن الإنتخابات البرلمانية، لو أجريت الآن، فإنها ستقود الحركة الصدرية إلى موقع أكثر أهمية مما يتوقعه الكثيرون.