سليم الحص

يا للعار. كلنا طائفيون لا بل مذهبيون. سقى الله أياماً كنا نشعر بصدق أننا لبنانيون عرب. مازلنا نقول إننا كذلك، وإنما شكلاً وليس فعلاً، فليس بيننا من يدين بالولاء للبنان أو للعروبة. نحن لبنانيون بالعنوان، لا أكثر. ونحن عرب باللغة والمصلحة.

هذا الواقع النشاز لا يفوت من يرصد الخطاب السياسي المتشرذم في بلدنا.

تسمع اثنين من كبار قادة الموالاة، الذين يباهون بتصدر ldquo;ثورة الأرزrdquo;، يتحدثون يومياً بحقوق المسيحيين وتمثيلهم ومكانتهم، وتسمع المفردات عينها تتردد على لسان كبير المسيحيين في جبهة المعارضة. وتسمع منه أيضاً مطالبة بالتخفيف من صلاحيات رئيس الوزراء ناعياً أن رئيس الجمهورية لا يمتلك صلاحيات كافية.

ويأتي الرد من أحد كبار المعارضين بأن المسلمين السنّة لا يرتضون أن يكون رئيس الوزراء مجرداً من الصلاحيات. وتسمع منه أيضاً، فيما كانت الاشتباكات المذهبية مشتعلة، أنه لن يخرج عن نطاق طائفته فيما لو احتدم الصراع طائفياً، مردفاً، والحمد لله، أن الانقسامات سياسية وليست طائفية.

وتسمع قائد حركة مميزة يؤكد في خطاب تاريخي أنه يعتز بأنه من أبناء ولاية الفقيه، أي أنه من لون مذهبي معين. علماً بأن الحركة التي يقودها اكتسبت في ساحة الوغى فخر واعتزاز معظم اللبنانيين والعرب، على اختلاف بلدانهم ومذاهبهم ومللهم.

وتسمع أحد أبرز رجال الدين يطالب باستحداث منصب نائب رئيس للجمهورية مع الإيحاء أنه يجب أن يكون من طائفته بالذات.

وترى وسائل إعلام ذات حول وطول تبث بلا كلل ولا ملل شحناً مذهبياً وطائفياً، وكأنما ديدنها صب الزيت على النار وتسعير حالة الاحتقان المذهبي والطائفي السائدة بين الناس. وإحدى تلك الوسائل تعود إلى زعيم فئته المسلمة التي عرفت في تاريخ لبنان بريادتها في ميدان الوطنية وتمسكها المتميز بالوحدة الوطنية، كما عرفت بتشبثها بالعروبة حتى كان يقال أن شارعها كان شارع جمال عبد الناصر على صعيد الأمة. كان هذا من الماضي. أما اليوم فقطاع واسع من هذه الفئة يرفع راية الطائفة لا بل المذهب، فوق راية الوطن وفوق راية العروبة.

هذه كلها نماذج من الألوان التي تشكل فسيفساء المجتمع اللبناني هذه الأيام. نحن في أسوأ حالاتنا. كانت التباينات الطائفية دوماً من العلامات الفارقة لهذا الشعب منذ الاستقلال، ولكن هذه الانقسامات ما كانت يوماً على هذا القدر من النتوء والدوي كما هي اليوم. كنا جميعاً ندرك دوماً أن آفة لبنان الأولى هي الطائفية فإذا بنا ننغمس فيها اليوم حتى الثمالة.

لذا جاء اتفاق الطائف، الذي أنهى خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية التي لم تكن بريئة كلياً من العوامل الفئوية، وفيه نص يدعو إلى إلغاء الطائفية على مراحل بدءاً بتشكيل هيئة وطنية علياً تشرف على عملية تجاوز الحالة الطائفية. كان من المفترض أن تنشأ تلك الهيئة في عام 1992 مع انتخاب أول مجلس نيابي بعد الحرب الأهلية. ولكن الطائفية لا تنتحر. لذا لم ترَ هذه الهيئة النور في ظل الأجواء الطائفية المهيمنة. فإذا بالعصبيات تزداد حدةً، وتعيش اليوم أعنف حالاتها.

ونحن لسنا في أسوأ حالاتنا فئوياً لمجرد أن الخطاب الطائفي بلغ حدود الابتذال والصفاقة، بل أيضاً، وهذا هو الأخطر، لكون الانقسامات الفئوية باتت تتفجر صدامات دامية متنقلة بين المناطق، وتستخدم فيها أفتك الأسلحة النارية، ولم يبقَ من أسلحة الحرب خارج المعركة سوى الدبابات والطائرات التي لم تصل والحمد لله إلى أيدي المتقاتلين.

نحن إذ نعرب عن استنكارنا للتعبيرات والإفرازات الطائفية والمذهبية في حياتنا العامة، وتقززنا منها، لا ننكر على المواطنين حقهم في التدين وعبادة رب العالمين كل على طريقته. لا بل نحن على عكس ذلك ندعو إلى العبادة والتدين، فهما معدن التقى والفضيلة والتسامح ومكارم الأخلاق.

إننا نردد القول: شتان ما بين الدين والطائفية. فالدين قيم أما الطائفية فعصبية. ولما كانت القيم التي تقوم عليها الأديان ذات معان واحدة أو متماثلة فإن الدين يجمع. فالمحبة كما الرحمة والصدق والإحسان والخير والاستقامة ومخافة رب العالمين كلها ذات معان متماثلة في شتى الأديان، لذا فإن الدين يجمع. أما الطائفية فعصبية تفرق، ذلك لأن العصبيات بطبيعة الحال تتصادم إذ تسعى كل فئة عبثاً إلى إلغاء الأخرى أو السيطرة عليها. لذا فنحن ندعو إلى التمسك بأهداب الدين وندعو إلى التطهر من أدران الطائفية.

ولكن الدين شأن ذاتي خاص، نمارسه في بيوتنا كل على طريقته. فلا نقحمه في حياتنا العامة فنشوّه صورة الدين ونسيء إليه وندمر حياتنا العامة بتمزيق وحدتنا الوطنية. ما لم ندرك هذه العبرة البسيطة، وما لم نتعلم هذا الدرس البليغ، فإننا لن نكون شعباً بل قبائل متناحرة، وقبائل العصر تسمى طوائف، ولن يكون في لبنان لبنانيون بل مسيحيون ومسلمون، لا بل موارنة وسنة وشيعة وأرثوذكس وما إلى ذلك. ولن نكون عرباً إلا بالادعاء وبالمصلحة، هكذا نرى في العروبة سياحة واستثمارات ومعونات مالية ومظان لاستيعاب حركة الهجرة من بلدنا سعياً وراء الرزق الحلال.

نحن ندّعي العروبة وهي منا براء. فهي مشروع اتحاد على مستوى الأمة، ونحن دعاة فرقة وانقسام على مستوى الشعب.

طائفيتنا تنطق بفسادنا. فالفساد متعشش في مجتمعنا والطائفية حصنه الحصين. فالفاسد لا يحاسَب ولا يلاحَق محتمياً وراء خطوط طائفته. بات يصوّر أن مداعاة أي مواطن على فساده إنما تعادل مداعاة طائفته.
والطائفية جعلت منا مجرمين. فالقتل مباح إذا كان ضحيته أناساً من طائفة أخرى. ولا تثور حفيظتنا إلا عندما يستهدف جماعة من فئتنا.

والطائفية جعلت منا كفرة بقوميتنا. فأمام الخصم المفترض في حيّنا وبلدتنا ومدينتنا، لم نعد نذكر أن ثمة عدواً رابضاً على حدودنا الجنوبية يسمى ldquo;إسرائيلrdquo;.

والطائفية جعلت منا أدوات طيّعة في أيدي قوى خارجية فلم نتعلم درساً مما تعرض له العراق الشقيق من فتن افتعلتها قوى خارجية. فنحن على درب الفتنة سائرون والعياذ بالله. الحرب الطائفية والمذهبية هي حرب إبادة متبادلة فاشلة حتماً. ولكننا قبل أن ندرك ذلك لا نتورع عن تدمير مجتمع ووطن. يريدون مني أن أخجل بلبنانيتي وأنا مصرّ على الاعتزاز بها، يا للمكابرة.