سورية تحت الاضواء الكاشفة
انتحار غازي كنعان وقمة جبل الجليد

بلال خبيز: يمكن القول انه يوم سورية بامتياز. الرئيس الأسد على شاشة السي ان ان مساء. جريدة الحياة الموزونة والرصينة تفتتح صفحتها الأولى بخبر منسوب إلى مصادر غربية رفيعة يفيد ان لا أدلة على تورط سوريين في جريمة اغتيال الحريري. السفير الفرنسي في دمشق يعلن في حفل افطار ان فرنسا تعارض تغيير النظام في سورية. ثم تعلن وكالة الانباء السورية خبراً مقتضباً مفاده ان وزير الداخلية السوري وجد في مكتبه منتحراً. بعد اكثر من ساعتين يضاف إلى الخبر المقتضب ان الوزير السوري انتحر بإطلاق رصاصة من مسدسه في الفم. الحدث كبير. زلزال ميليس يتنقل بين لبنان وسورية. التعليقات الاولية تناولت موضوع انتحار اللواء غازي كنعان بوصفه من تداعيات التحقيق الدولي. ذهب البعض إلى اعتبار انتحار الوزير كنعان كما لو انه ثمناً تدفعه سورية لصفقة مع الاميركيين. اخرون حملوا النظام السوري مسؤولية مقتله جازمين ان لا علاقة للراحل بجريمة اغتيال الحريري.

هذا كله ووسائل الإعلام السورية تلتزم الصمت المطبق حيال ما جرى. على جاري عادتها، لا تخرج من بطن سورية الأخبار إلا بشق النفس. كل ما امكن تسقطه من اخبار لا يتعدى المعلومات التقنية، كأن يصرح مدير مكتبه انه ذهب لمدة ثلث ساعة إلى البيت ثم عاد إلى مكتبه قبيل الواحدة ظهراً بتوقيت دمشق واطلق النار في فمه.

غازي كنعان في ذمة الله. هذا خبر مؤكد. المؤكد ايضاً ان لانتحاره علاقة ما بتقرير القاضي الالماني ديتليف ميليس. والمؤكد ايضاً ان الرجل وقبل انتحاره اتصل بالزميلة وردة في اذاعة صوت لبنان واعلن بياناً دافع فيه عن نفسه في ما يتعلق بالأخبار التي بثتها محطة النيو تي في اللبنانية التي ادعت ان كنعان اتى إلى جلسة الاستماع مع القاضي ميليس حاملاً معه علبة من الكرتون، وعرض محتوياتها على القاضي، صوراً عن الشيكات التي كان يتسلمها من الراحل رفيق الحريري ويوزعها على مسؤولين ومتنفذين، في سورية ولبنان. وختم بالقول: كان الحريري مصدراً من مصادر رزقنا فلماذا نقتله؟ عدا هذه الأخبار اليسيرة ليس ثمة ما يمكن اثباته او تبينه في مقبرة الصمت السورية. انتحر غازي كنعان، الرجل الذي حكم لبنان من دون منازع منذ العام 1987 وحتى يوم خروج القوات السورية من لبنان في نيسان ابريل من العام الجاري. وبانتحاره يؤكد مسلمة واحدة على الأقل تفيد بأن السيطرة السورية في لبنان انحسرت وفقدت وجهاً من وجوهها البارزة. يمكن القول ان لبنان قتل غازي كنعان. حكمه بيد من حديد وبقسوة لا مثيل لها لكن البلد الصغير قتله في نهاية المطاف. لا يمكن فصل هذا الانتحار عن دور الراحل في لبنان. التقارير الصحافية التي استفتت مواطنين لبنانيين، افادت على وجه السرعة والجزم ان اللبنانيين لن ولم يذرفوا دموعاً على الراحل الذي ميزهم بقسوته وحكمهم بسوطه. لكن هذا كله يقع في موقع آخر غير تحليل اسباب الموت الراهنة.

الأسئلة اكثر من ان تحصى، لكن المرء يستطيع ان يميز اتجاهين اساسيين في هذه المسألة. في البداية لا بد من القول ان سورية برمتها تحت الضوء الآن. اضواء كاشفة من كل العينات. في القضاء والامن، فضلاً عن السياسة والحرب. الأخبار تتوالى يومياً، ثمة خبر يظهر عن احتمال قصف اميركي لمواقع سورية او مواقع ارهابية داخل الحدود السورية، ثم يختفي الخبر او لا يعلق عليه المسؤولون الاميركيون. بعد وقت قليل يتم نفيه. ثمة تصريحات لديفيد وولش معاون وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى ينفي فيها اي وساطة او اي تسوية مع النظام السوري، سرعان ما يعترض الرئيس المصري حسني مبارك على لهجتها، مدعياً انها غير دقيقة.

الثابت ان ثمة تخوف مصري سعودي، وعربي عموماً من تكرار المثل العراقي في سورية. تخوف حدا بقادة البلدين ان يحاولوا انجاز تسوية اللحظة الاخيرة بين الإدارة الاميركية والسورية. تقضي التسوية على ما تقاطعت معلومات وتصريحات متعددة، ان يتكرر المثال الليبي في سورية ايضاً، وان يتم الاحتفاظ بالنظام في هيكله العام شرط ان يبدي طواعيته الكاملة وخضوعه التام للشروط الاميركية، وتالياً ان تتم التغييرات المطلوبة من سورية على نحو بطيء يكفل ضمان الاستقرار في البلد الذي يعاني من حصارات داخلية وخارجية لا تحصى. لكن المثال الليبي اصطدم برد اميركي يفترض ان الرئيس الأسد غير قادر على ضبط النظام وتنفيذ ما يتعهد به. فجأة عادت إلى الظهور نغمة ان الرئيس الأسد يعد ولا يفي، لأنه لا يملك القوة والسلطة على تنفيذ الوعود والعهود مثلما كان والده من قبل. والحق ان مثل هذا الاعتبار يملك حظاً من الوجاهة التي لا يمكن نكرانها. فالرئيس الأسد هو الطارئ على النظام السوري الذي تحكمه مجموعة من مراكز القوى، كان الراحل غازي كنعان واحداً من ابرز ممثليها. فضلاً عن ذلك فإن الرئيس السوري لا يملك الأفضلية الاخرى التي يملكها الزعيم الليبي. فالزعيم الليبي يتربع فوق ثروة نفطية هائلة، تمكنه من الصمود امام الحصارات والصبر على المفاوضات الطويلة، فضلاً عن قدرته على شراء ثمن اخطائه مهما بلغت فداحتها. الامر الذي لا تملكه سورية ولا يملكه الاسد في طبيعة الحال. والحق ان حصاراً اقتصادياً دولياً على سورية قد يؤذيها في الصميم وعلى وجه السرعة اكثر مما يتخيل البعض. بل ان زائري سورية هذه الأيام يستطيعون ان يلاحظوا بالعين المجردة بعض دلائل وعلامات الضيق الاقتصادي الناتجة عن تردي العلاقة مع لبنان، وتالياً عن خوف اليد العاملة السورية التي كانت منتشرة في لبنان من العودة للعمل فيه. والحال، فإن حصاراً جدياً يعني الكثير لسورية التي لا تستطيع الصبر طويلاً ولا تقوى على الحصار. هذه الاعتبارات ترجح عدم امكان عقد صفقة مع النظام السوري، وتالياً ترك سورية معرضة لرياح الداخل والخارج تهب عليها.

في هذه العاصفة التي تعصف بسورية والمنطقة، يبدو تسقط الاخبار والتقاط الإشارات مضللاً احياناً ويستند إلى امل المرء وتعبه من تقلبات الوضع والظروف. لكن الاشارات غادرة، ويبدو ان الصحافة لا تعرف كيف تنجو من افخاخ التسريبات المتعددة. على هذا بدا انتحار الوزير غازي كنعان لغزاً يلزم على الصحافة ان تحله قبل ان تحله الأيام المقبلة.

لا احد يعرف بالضبط، من الصحافيين والمحللين ما يتضمنه التقرير النهائي للقاضي الألماني ديتليف ميليس. لكن ما لا يحتاج القاضي ان يضمنه تقريره حتى يصبح حقيقة، ان سورية تقع في خانة الاتهام السياسي عن الجريمة منذ اللحظة الأولى، وانها منذ ذلك الحين تجاهد لدفع التهمة عنها بشتى السبل والوسائل. والحق ان التحقيق القضائي الذي لا بد وان يأخذ الاتهامات السياسية في الاعتبار لا بد وان يتقصى هذه المزاعم ويحاول اثباتها. وبصرف النظر عن المسؤولية الجرمية في ما يتعلق باغتيال الحريري فإن الاشتباه وحده كفيل بكشف فضائح وجرائم اخرى اقل حجماً، تبدأ من الرشاوى وغسل الأموال، ولا تنتهي بالابتزاز وفرض الخوات. وليس خافياً مسؤولية النظام السوري ومخابراته في لبنان عن مثل هذه الجرائم التي لا تحصى في لبنان. والحق ان ما اعتبرته الاوساط الإعلامية دفاعاً عن الراحل غازي كنعان، حين قال للقاضي الدولي انه تلقى هدايا واخذ اموالاً من الحريري له ولغيره من السياسيين والعسكريين في سورية ولبنان، وانه قبض ثمن قانون انتخابات العام 2000 عشرة ملايين دولار، كتلك التي قبضها اللواء اللبناني جميل السيد، عن الخدمة ذاتها، تدين الرجل في جريمة اخرى لا تقل خطورة على المستوى السياسي عن الجريمة الاولى. خلاصة القول ان التحقيق الدولي سينبش احشاء النظامين اللبناني والسوري على نحو لا مثيل له. وسواء ثبت تورط اركانه في جريمة اغتيال الحريري ام لم تثبت فإن التحقيق سوف ينشر وينبش احشاء النظام الامني الذي اشرفت على تركيبه سورية واعتنت بتثبيت سلطانه على رقاب اللبنانيين وسيتكشف عن تجاوزات وجرائم مذهلة، مالية وامنية وسياسية. والوضع نفسه ينطبق بدرجة اشد حدة على النظام الامني السوري. والحال فإن من ثوابت النتائج التي سيسفر عنها التحقيق كما هائلاً من الفساد السياسي لا يقر له قرار يجعل النظامين مدانين سياسياً ودولياً قبل ادانتهما قضائياً.

على هذا يصح القول ان زلزال ميليس ما زال في اولى درجاته. وليس مرجحاً ان يستقر على هذه الدرجة ولا يتجاوزها صعوداً. على هذا الأساس يبدو انتحار اللواء غازي كنعان موتاً بوجوه متعددة، وقابلاً لكل انواع التكهنات. وسرعان ما رأى فيه الكثيرون من المحللين عنواناً لصفقة سياسية بين سورية والولايات المتحدة الاميركية يتم بموجبها تضييق الخناق على رموز النظام الامني السوري لحماية النظام السياسي في سورية، وتالياً حماية الوضع السوري من انهيار وشيك. لكن التصريحات المتتابعة سرعان ما بدت كما لو انها تفتح الباب لتكهنات اخرى. فصرح الرئيس الاميركي على الأثر انه ينتظر من سورية ان تنفذ ما يطلب منها على المستوى العراقي وان تتجاوب إلى اقصى حد مع التحقيق الدولي وان لا تتدخل في الموضوع الفلسطيني من قريب او بعيد. واوردت "سورية نيوز" غداة انتحار اللواء كنعان تصريحا لآدم رايلي يقول فيه ان من يظن ان ازاحة كنعان جاء في سياق صفقة سورية اميركية في ما يتعلق بجريمة اغتيال الحريري يكون مخطئاً وهو لا يعرف الولايات المتحدة والأرجح انه لا يعرف سورية ايضاً.
بعد يوم سوري حافل توج بانتحار الوزير السوري القوي، عادت الامور إلى النقطة التي كانت عليها من قبل. الأميركيون يطلبون من السوريين مطالب محددة، والسوريون يدفعون عن انفسهم تهمة قتل الحريري او رعاية المقاومة العراقية. لينتهي نهار من اطول نهارات سورية حتى اليوم، إلى إعادة فتح سورية امام كل الاحتمالات مرة أخرى.
قد يكون انتحار الوزير السوري ثمناً مناسباً لصفقة بين سورية والولايات المتحدة الاميركية. لكن ما يبدو انه قيد التحضير ليس اقل من تغيرات عميقة في بنية النظام السوري، يصعب عليه ان يتحمل نتائجها وينجو منها إلا عبر تأمين دعم دولي حاشد، يعز وجوده هذه الأيام.