نبيل شرف الدين من القاهرة: كان مقر كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في حي العباسية وسط القاهرة، يرتدي أزهى حلة ويشهد حركة نشطة لاستقبال ضيوفه من كبار رجال الدولة فضلاً عن شيخ الأزهر ومفتي مصر، ومئات الشخصيات العامة، على مائدة إفطار "الوحدة الوطنية" التي دشنها منذ سنوات كتقليد احتفالي البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط ، وقبل ساعات على موعد الإفطار تزاحمت كاميرات الفضائيات والمحطات التلفزيونية المصرية الحكومية، والصحافيون وسفراء معظم دول الدول المعتمدين لدى القاهرة، فضلاً عن رهط كبير من الساسة والوزراء ورؤساء الأحزاب وممثلي كافة القوى المعارضة، باستثناء الإخوان المسلمين .

وتكرر هذا المشهد الشهير الذي يجمع البابا شنودة الثالث أثناء استقباله شيخ الأزهر، وتبادلهما عبارات الود والترحيب والعناق أمام الكاميرات، غير أن هذه "الصورة" بدت هذا العام غير متسقة مع ما شهدته أهم مدينتين في مصر، وهما العاصمة القاهرة، والعاصمة الثانية الإسكندرية من احتقانات طائفية أطلت مجدداً برأسها في الثلث الأول من شهر رمضان المبارك، الذي طالما كان "أيقونة تسامح" مصرية، فضلاً عن مكانته الدينية لدى كل مسلمي مصر، فكثيراً ما شهد هذا الشهر مصالحات بين ألد الأعداء، وتقاربا وودا كان يتسابق في إبدائهما المصريون، بغض النظر عن كونهم مسيحيين أو مسلمين.

غير أن واقعتين جرتا لا يمكن أن يمرا دون استيقاف مراقب متابع لملف الشأن القبطي، خاصة وأنهما ينطويان على دلالة زمنية وأخرى مكانية سنرد على ذكرهما بالتفصيل، بعد أن نسرد ما جرى في حي "عين شمس" شرق القاهرة، ثم ما جرى في حي "محرم بك"في مدينة الإسكندرية الساحلية شمال مصر .

أم كريستين

البداية كانت في حي "عين شمس" العشوائي شرق القاهرة، حين اختفت فتاة في السادسة عشر من عمرها، وهي شقيقة أحد أئمة المساجد في ذلك الحي الذي طالما كان بؤرة توتر طائفية طوال التسعينات من القرن المنصرم وما أن اختفت الفتاة في ظروف ملتبسة، حتى انطلقت آلة الشائعات على أشدها تتحدث عن وقوعها في شباك سيدة مسيحية تعمل مصففة شعر اسمها "أم كريستين"، وقامت بتحريضها على اعتناق المسيحية، قبل أن تصطحبها الى أحد الأديرة، لتخفيها هناك بعيداً عن أهلها .

إلى هنا وانتهت "القصة ـ الشائعة"، وبالطبع انتشرت وصارت حديث الحي الشعب الذي ظل لسنوات طويلة معقلاً طويلاً للجماعات الإسلامية، وشهد مواجهات دامية عدة في التسعينات مع الشرطة، ولهذا الأمر دلالته بالطبع، إذ تجمع أمام منزل مصففة الشعر "أم كريستين" مئات الأشخاص، وراحوا يهتفون بشعارات لا تختلف كثيراً عما يسمعه المرء من هتافات في المظاهرات التي تنظمها جماعة "الإخوان المسلمين" كهتاف : "بالروح والدم نفديك يا إسلام"، وشعار "إسلامية إسلامية، كوني يا مصر إسلامية" وغيرها، وبدا أن "أم كريستين" التي يتظاهر ضد المنسوب إليها من وقائع لم تتحقق أي جهة رسمية حتى الآن من صحتها، وهي أقرب إلى الشائعة غير المنطقية لأي مدقق، غير أن "ذهنية الدهماء" قلما تتوقف طويلاً أمام التدقيق أو حتى التأني قليلاً .

حضرت الشرطة وفرقت الحشود، واستدعت كل أطراف هذه القصة، وبدأت تحقيقاتها، ولم تتوصل أو لم تعلن توصلها حتى الآن إلى كلمة فاصلة في هذه الشائعة، فلم يصدر بيان مثلاً بما توصلت إليه أجهزة الأمن من معلومات، وتكذب الشائعة التي سرت كالنار في الهشيم لدرجة أنه يمكن لأي عابر سبيل في هذا الحي أن يستمع إلى تفاصيل مثيرة، لا تبدو منطقية بالمرة ، عن "أم كريستين" التي تعمل مصففة شعر، لكنها أيضاً تمتلك قدرات هائلة لإقناع الفتيات المسلمات بالردة عن دينهن، واعتناق المسيحية، بل ودخول الدير كمكرسات أو راهبات، بينما تلتقطهن من محل "الكوافير" الذي لا ترتاده عادة سوى فتيات مقبلات على الحياة راغبات في التزين والتجميل، وهن بحكم أعمارهن واهتماماتهن أبعد ما يكن عن الرهبنة، فضلاً عن اهتمامهن أساساً بالمسائل الدينية والطائفية، لكن هذا هو ما حدث .

مسرحية الإسكندرية

في مدينة أخرى، هي الإسكندرية، العاصمة الثانية لمصر، والتي تحولت خلال الأعوام الماضية من مصيف رائع، ومنتجع للراحة والمتعة، ومرفأ حضاري بين الشرق والغرب، ومقر اختياري لأكبر جاليات أجنبية في مصر، من يونانيين وإيطاليين وقبارصة وألبان وأتراك وشركس وغيرهم، إلى واحدة من بؤر انتشار جماعة "الإخوان المسلمين" التقليدية، التي ارتفع عدد أعضائها والمتعاطفين معها من بين أبناء تلك المدينة التي كانت "ساحرة" ذات زمن ولى، ولوت معه سلوكيات كثيرة كان أبرزها التسامح .

هناك وفي حي "محرم بك" الهادئ خرج مئات المصلين عقب انتهاء صلاة التراويح التي تستمر إلى وقت متأخر عادة في أحد المساجد هناك، الذي يعج بالدعاة السلفيين والإخوان، وبدأت مظاهرة أمام كنيسة "ماري جرجس"، احتجاجا على قيام الكنيسة بعرض مسرحية اسمها "كنت أعمى والآن أبصر، بعد أن انتشرت بين هؤلاء الغاضبين شائعة تقول إنها تحمل إساءات للإسلام والمسلمين، مع أنها مجرد عمل للهواة ولم تعرض سوى داخل تلك الكنيسة، بينما كان هؤلاء المحتشدون يصلون التراويح، فلم يشاهدها أي منهم بالأساس، لكن الشائعات كانت أقوى من كل دعوة للروية والتحقق من صحة الأمر .

الأنبا أرميا سكرتير البابا شنودة الثالث كان هو المسؤول الوحيد الذي علق على قصة المسرحية التي عرضتها كنيسة الإسكندرية، قائلاً إنها لم تتضمن أي إساءة للاسلام، وفجر مفاجأة مفادها أن المسرحية انتهى عرضها منذ عامين على الأقل، وكان بها احدى الشخصيات مثل شخصية الإرهابي التي تناولها فيلم عادل إمام الشهير "الإرهابي"، مؤكدا أن الاقباط لم ولن يقبلوا أي مساس بالدين الاسلامي، وأن مصر منذ فجر التاريخ عرفت التسامح والتعايش بين الاديان واحترام الاخر والتعايش السلمي الرائع"، وغير ذلك من التصريحات التي تتردد في مثل هذه الحالات من الاحتقان الطائفي لاستيعابها وتجاوزها .

غير أن ما حدث أمام الكنيسة كان منعدم الصلة بهذه التصريحات، إذ احتشد المتظاهرون مرددين هتافات معادية، وطالبوا كهنة الكنيسة بالخروج، وهو ما لم يحدث بالطبع، فكيف يمكن لقس أعزل أن يواجه هذه الجموع الغفيرة من المتظاهرين، ومعظمهم من الشباب الغاضبين المحتقنين المقتنعين تماماً بأن ما حدث كارثة تستوجب التظاهر حتى الساعات الأولى من الصباح، وأن هناك مسرحية تسخر من المسلمين، وتطعن بالإسلام، رغم أن أياً منهم لم يشاهدها .
قوات الشرطة حاصرت الكنيسة والمتظاهرين، وأعلنت حال الطوارئ حتى الصباح، حيث تم تكثيف الوجود الأمني حول الكنيسة بعد انصراف المتظاهرين، وبقيت 20 سيارة أمن مركزي تطوق الكنيسة والمنطقة، وجرى التعامل مع هذا الاحتقان الطائفي بطريقة التعتيم والتجاهل نفسه وسيناريو الشيخ والقس.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن إحدى صحف الإثارة المحلية كانت قد نشرت تقريرا تحت عنوان (الأفلام والمسرحيات السرية داخل الكنيسة)، زعمت فيه أن الأقباط يحرضون على العنف ضد المسلمين، من خلال تلك الأعمال الفنية التي يعرضها الهواة، كما ادعت الصحيفة أنها تهاجم حالات اعتناق بعض الأقباط الإسلام، وتسخر من تعدد الزوجات في الإسلام، وغير ذلك من القضايا ذات الحساسية البالغة، وقالت أيضاً في تقريرها الذي كان بمثابة أول شرارة في هذه الأزمة إن "الكنيسة تعرض مسرحية تهاجم الإسلام، وتسب المسلمين"، وان نصها يسخر من أسلوب حياة من أسمتهم "المسلمين الملتزمين" .

احتقانات طائفية

وتعيد ما نشرته تلك الصحيفة إلى الأذهان حالة احتقان طائفية حين احتشدت مظاهرة ضخمة عام 2000 عندما نشرت صحيفة محلية اسمها (النبأ) صور راهب (مشلوح) يمارس الجنس، وادعت الصحيفة حينئذ أن ذلك حدث داخل مذبح الكنيسة، أما أقدم حوادث الصدام الطائفي فقد جرت في مطلع السبعينات حين تعرضت كنيسة في منطقة الخانكة شرق القاهرة للحريق، واعتبرت القيادة السياسية وقتئذ ان هذا الحادث شأن سياسي يعالج سياسيا، وبالفعل شكلت لجنة تقصي حقائق برئاسة القانوني البارز جمال العطيفي، وأعدت اللجنة تقريرا مهما عن المسألة القبطية بكل أبعادها، غير أن التقرير لم تجر مناقشته ولم يؤخذ بأي من التوصيات الواردة فيه، بل سلم الملف القبطي لوزارة الداخلية أسوة بملف الاصولية الاسلامية التي خاضت مواجهات دامية ضد السلطة خلال العقود الثلاثة الماضية .

وهاتان الحادثتان اللتان جرتا خلال الأيام الماضية في القاهرة والإسكندرية، هما الأحدث من نوعهما في سلسلة احتقانات طائفية شهدتها مصر هذا العام، إذ سبق أن تظاهر حشد من الشباب القبطي في مدينة الفيوم جنوب القاهرة يوم السابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي، احتجاجًا على ملابسات أحاطت واقعة اختفاء فتاتين قبطيتين تدعيان ماريان مكرم وتيريزا عياد، يعتقد أنهما اعتنقتا الإسلام، غير أن قضية الفتاتين انتهت وفقًا لبيان أصدرته حينئذ وزارة الداخلية عند حد "جلسة النصح والإرشاد" التي جرى خلالها إقناع الفتاتين بعدم المضي قدمًا في إجراءات إشهار إسلامهما .

كما شهدت القاهرة مظاهرات حاشدة نظمها الأقباط في كانون الأول (ديسمبر) 2004 احتجاجًا على ما اشتهر بقضية "زوجة الكاهن قبطي"، المدعوة وفاء قسطنطين، وطالبوا سلطات الأمن بإعادة الزوجة إلى الكنيسة ما تسبب في أزمة بين الكنيسة والسلطات، خاصة بعد اعتقال عدد من المتظاهرين واعتكاف البابا شنودة في الدير احتجاجا على اعتقالهم، لكن الأزمة انتهت بعد أمر النائب العام بالإفراج عن المحتجزين، وعودة السيدة إلى الكنيسة وإنهاء البابا اعتكافه .

وسبق أن أثارت توترات طائفية عدة بين المسلمين والمسيحيين الذين يشكلون ـ وفقاً لتقديرات رسمية ـ نحو عشرة في المئة من سكان مصر الذين يزيد عددهم على 73 مليون نسمة، في حين تؤكد الكنيسة القبطية ان عددهم يصل الى قرابة عشرة ملايين نسمة على الأقل، أثارت مصادمات دامية عدة حينئذ ، ففي عام 1999 قتل 19 قبطيا ومسلمان، واصيب 33 اخرون كما دمرت عشرات المحال التجارية خلال اشتباكات استمرت لايام عدة في قرية الكشح في محافظة سوهاج على بعد نحو 400 كيلومتر جنوب القاهرة، فضلاً عن أحداث أخرى أقل خطورة جرت في أماكن متفرقة من البلاد .