معركة سياسية وعذابات تنتظر لبنان بعد تقرير ميليس
لحود باقٍ في القصر ... بلّطوا البحر

إيلي الحاج من بيروت: سيُفاجأ اللبنانيون في الساعات المقبلة بعد قراءتهم تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس بأنه بداية درب عذابات جديدة لا نهايتها. والله يستر: سترتفع أصوات ثائرة في اتجاه رئيس الجمهورية إميل لحود تطلب تنحيه. رجالك قتلوا الحريري فانزل. لحود سيرفض طبعاً : لم يذكرني التقرير والوارد فيه اتهامات أو قرار ظني، فلننتظر المحاكمة. بأسلوب آخر " أنا باقٍ في القصر بلّطوا البحر". الانتظار يعني خمسة أشهر أو ستة على الأقل لتشكيل المحكمة الدولية- اللبنانية واختيار أعضائها وسنتين لسماع ما لا يقل عن أربعمئة شاهد في القضية . تنتهي ولاية الرئيس الممدة قبل انتهاء المحاكمة لابأس . لم العجلة ؟ حتى اليوم لم يتبين ما إذا كان الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوتسيفيتش مذنباً أم بريئاً من المجازر ، ومتى كان المتهم يّدان قبل محاكمته؟ لحود لا يطلب أكثر من أن يدعوه يكمل ولايته الممددة بهدوء.

هذا ليس سيناريو مسرح بل سياسة. فكما الرئيس السوري بشار الأسد تحوّط للاتهامات التي ستصيب ضباط مخابراته في التقرير بوصفهم سلفاً خونة، كذلك سيتبرأ حليفه لحود من أركانه الأمنيين الموقوفين والذين سيوقفون ويتصدى لنظرية "الآمر الناهي" التي حُكم مراراً زعيم "تيار القوات اللبنانية" سمير جعجع على أساسها في ظل النظام الأمني السابق باتهامات وُجهت إلى أنصاره وليس إليه . سيقول لحود أن رؤوس الأجهزة الأمنية تصرفوا من رؤوسهم، لم يرجعوا إليه لا في شاردة ولا واردة. خونة وما ذنبي . ماذا سيفعل الآخرون؟
لا في البرلمان ولا الشارع
بعد مرحلة الجلبة والاتهامات الكلامية الشديدة الوطأة في حق رئيس الجمهورية والردود عليها من مكتب الرئاسة الإعلامي و"زوار الرئيس"، ستحسب الأكثرية النيابية المعقودة اللواء لزعامة نجل الحريري النائب سعد أنها لا تمتلك في البرلمان أكثرية الثلثين التي تخولها تقصير ولاية لحود الممددة لينتقل دستورياً من بعبدا إلى بلدته بعبدات، ولا لاتهامه بالخيانة العظمى التي تحتم تخليه عن منصبه. ذلك أن هذه الأكثرية ستعوزها أصوات التكتل الشيعي الذي يجمع نواب "حزب الله" وحركة "أمل"، أو أصوات الكتلة النيابية التي يترأسها العماد ميشال عون.

يفيد هنا تذكيران بالغا الأهمية والتأثير في مجرى الأحداث التي ستأتي. الأول أن رئيس "أمل" ومجلس النواب نبيه بري سلّم قراره لحاميه انتخابياً وسياسياً بعد انسحاب السوريين الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله المعقودة له زعامة الشيعة في لبنان. وفي الحزب يغلي استياء بالغ حيال سياسة "تيار المستقبل" ورئيس الحكومة التي يدعمها التيار فؤاد السنيورة بسبب ما يراه ابتعاداً عن التزام توافق مبدئي على عدم المس بسلاح المقاومة وارتباطاً أكثر فأكثر بتوجهات الأمم المتحدة وأميركا وفرنسا. وكلها لا تنفك تطالب بإنهاء المقاومة التي يعتبرها الحزب أكثر من سبب لوجوده ولا يساوم عليها.
أما التذكير الثاني فبأن العماد عون الذي أعلن ترشيحه لرئاسة الجمهورية لن ينضم إلى المطالبين بتنحي لحود أو تنحيته إذا لم يضمن أن يكون خليفته في الرئاسة والقصر. ومع أن لا فريق أساسياً يريد عون رئيساً إلا عون وفريقه فإن الرجل أبعد ما يكون عن النهج الذي كان يعتمده عميد حزب الكتلة الوطنية الراحل ريمون إده عندما يتأكد أن حظوظه في الفوز برئاسة الجمهورية تعادل صفراً. كان إده يضع شروطاً باتت شهيرة ليقبل بتولي هذه الرئاسة: أن ينسحب من لبنان الجيش الإسرائيلي والجيش السوري وتحل الميليشيات الفلسطينية واللبنانية.
وبدعم كتلتي الشيعة وعون النيابيتين سيكون لحود مطمئناً إلى أن "جبهته" على محور البرلمان كافية لجعل الحملات الكلامية ضده من غير مردود فعلي.
الوضع نفسه ينطبق على "الجبهة الشعبية" – اللبنانية لا الفلسطينية- بمعنى أن لا 14 آذار/مارس جديداً يلوح في الأفق فقد تبدّدت صفوف تلك الانتفاضة البيضاء بجهود حثيثة مقصودة أو غير مقصودة يُسأل عنها العماد عون وكذلك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. في ظل التضعضع يستطيع الشيعة وأنصار عون المسيحيون أن يُنزلوا إلى الشارع رجلاً مقابل رجل ومئة ألف مقابل مئة ألف. "فياسكو" إذاً، لعبة ملغاة.
جبهة مقابل جبهة
على جبهة السياسة المحض ستكون الهجومات الأقوى على سيّد قصر بعبدا من "تيار المستقبل" والحزب التقدمي الإشتراكي طبعاً ، وهما غالب السنّة والدروز، لكنّ عنصراً جديداً كان غائباً وسيدخل الساحة بقوة مصوّباً على لحود لإنزاله هو "القوات اللبنانية" . فبعودة زعيمه جعجع المرتقبة خلال أيام من فرنسا إلى لبنان يستعيد هذا التنظيم حيوية وتأثيراً مباشراً كان قد فقدهما خلال أعوام مديدة نتيجة الملاحقات الأمنية وتخلخل الصفوف على السواء. بعدما أصبحت هذه المرحلة وراءه واستوعب الوضع الجديد ورسّخ تحالفاته مع "تيار المستقبل" ولا سيما زعيمه سعد الحريري سيكون جعجع رأس الحربة في معركة إسقاط رئيس الجمهورية الممددة ولايته بقوة السوريين قبل أن تتلاشى في لبنان . وعندما يتحدث تكراراً "الحكيم" – كما يسميه أنصاره - عن ضرورة الإنتهاء من "فلول النظام الأمني السوري اللبناني السابق" يكون رد فعل حكيماً من رئيس الجمهورية أن يتحسس الكرسي تحته. فللرجل ثأر عليه يعادل ثأر سعد الحريري لم يأخذه بعد. ولا مصلحة له مثل عون في بقاء لحود وإن موقتاً.
وثمة مؤثر آخر في المواجهة السياسية الآتية تنطبق عليه صفة "الصامت الأكبر" هو البطريرك الماروني نصرالله صفير الموجود هذه الأيام في الفاتيكان والذي يفترض أن يعود بدوره إلى لبنان في الأيام المقبلة. وبين البطريرك وسعد الحريري على ما رشح من لقائهما في عاصمة الكثلكة تفاهم تام، عميق ينتظر ترجمة . فهل يدعو البطريرك الرئيس إلى التنحي؟ وفي هذه الحال ألا يكون مسيحيو لبنان أمام تكرار سياسي هذه المرة لحقبة التمزقات التي عصفت بهم بداية تسعينات القرن الماضي؟ في حديث وجداني أدلى به جعجع لصحافيين في باريس أمس قال إنه وعون بكيا عندما التقيا بعد 15 عاماً.
لا مكان للدموع في السياسة ولا لطيبة القلب. وستكون مواجهة خط التماس فيها رئاسة الجمهورية وأطرافها من جهة "المستقبل" و"القوات" والحزب الاشتراكي وحلفاؤهم ، ومن جهة مقابلة لحود و"حزب الله" و"التيار الوطني الحر" وحلفاؤهم . وبما يكون رفض للتعامل مع رئيس الجمهورية فتنعقد جلسات مجلس الوزراء برئاسة السنيورة باستمرار فيعرقلها لحود برفضه جدول الأعمال والتوقيع على القرارات فيقع لبنان في أزمة حكم . وربما يستقيل النواب المحسوبون على "حزب الله" و"أمل" ولحود فتضطر حكومة السنيورة إلى الاستقالة أو تسقط تلقائياً باستقالة ثلث أعضائها ويتعذر بعد ذلك تشكيل حكومة جديدة . وفي هذه الحال يتكرر ما عرفه لبنان أيام رئاستي سليمان فرنجية في 1975 و 1976 وأمين الجميّل من 1982 إلى 1988، أيام كان لبنان يُدار بمراسيم جوّالة على الرؤساء والوزراء لتعذر انعقاد جلسات لمجلس الوزراء ورفض رئيس الجمهورية أو الحكومة الاستقالة واستحالة الإتيان بغيرهم بفعل موازين القوى. مع فارق إن بيار الجميل وكميل شمعون اللذين حالا دون سقوط الرئيسين فرنجية والجميّل الإبن حلّ محلهما اليوم لأسباب وغايات مختلفة حسن نصرالله وميشال عون.
لكن أبا الاستقلال اللبناني الرئيس الراحل بشارة الخوري عندما عمت التظاهرات المطالبة بتنحيه بعد تمديد ولايته عام 1952وُجد قائد للجيش ، فؤاد شهاب، يهمس في أذنه: "فخامة الرئيس لم تعد تستطيع أن تكمل" فاستقال . إلا أن شهاب نفسه بعد ستة أعوام تسنم الرئاسة وانفتحت على القصر الجمهوري منذ ذلك الوقت شهوات قادة الجيش.
واقعة يتذكرها من لفتتهم حملة الجنرال عون الشديدة قبل أيام وبلا سبب مقنع على قائد الجيش الحالي العماد ميشال سليمان الذي يُطمئن يومياً اللبنانيين القلقين المتقلبين على جمر في انتظار تقرير ميليس: "لا تخافوا ، نحن هنا". بتعبير أبسط أمامنا كرسي وثلاثة جنرالات.