سورية بين الأمس واليوم (3 / 9)
مرحلة الرجل القوي: من الساحة إلى صناعة الدور الاقليمي


بلال خبيزمن بيروت: كان صلاح جديد وحافظ الأسد رفيقا الحرب والسلطة على خلاف في التوجهات. جديد المتحدر من اسرة علوية متوسطة الحال كان لا يزال يقيم وزناً لحاضر سوريا وماضيها، بقيادة البورجوازية السنية والحكم المدني. انشد انشداداً واضحاً إلى هذا الماضي واراد ان يعدل فيه من دون ان يلغيه. جعل من امين الحافظ السني واجهة في الحكم وكان يحكم من خلف الستار. كان وجود الرئيس السني على رأس السلطة من الأعراف التي لم يكن قد تم تجاوزها حتى ذلك الوقت. وحتى حين بلغ به الخلاف مع امين الحافظ اشده وقام جديد بإزاحة الرئيس، لم يتجرأ ان يعلن نفسه اول رئيس علوي لسوريا ذات الغالبية السنية. كان يحكم من وراء الواجهة، ويوم انقلب عليه حافظ الأسد كان نور الدين الاتاسي هو رئيس سوريا لكن حاكمها الفعلي كان صلاح جديد. في الجهة المقابلة كان حافظ الاسد الذي سحب جيشه سالماً تقريباً من حرب حزيران، (أقل من 200 قتيل، وهم جميعاً من الذين خالفوا الأوامر وقرروا الاستشهاد في المعركة) يراهن على الجيش بوصفه الفئة الصاعدة في سوريا والبلاد العربية. وفي وقت كانت البورجوازيات المدينية في سوريا وفي غيرها من البلاد العربية تنظر إلى الجيش بوصفه منفذاً للسياسات العامة، كان حافظ الأسد يدرك بحدسه ان الجيش هو القوة الضاربة التي يجب المراهنة عليها في تثبيت سلطانه وهذا ما حصل فعلاً.

عام 1970 واثناء الحرب التي خاضها الجيش الاردني ضد المقاومة الفلسطينية هب صلاح جديد والقيادة السورية لنجدة الفلسطينيين، لكن وزير الدفاع وقائد سلاح الجو ترك العسكر السوري من دون تغطية في تلك الحرب، مما جعل الجيش السوري عرضة لنيران الجيش الأردني الحامية. عاد الجيش من نجدة الفلسطينيين بخفي حنين، لكن الرفيق صلاح جديد جمع اللجنة القطرية لحزب البعث التي قررت بالإجماع اقالة وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس اركان الجيش مصطفى طلاس من منصبيهما. لم يتقبل الأسد القرار وزحف بقطع الجيش التي كانت تواليه على دمشق وامسك كافة السلطات بيديه، ثم رمى برفاق الأمس في السجن. ونصّب نفسه اول رئيس علوي للجمهورية السورية واستتبت له السلطات في سوريا طوال ثلاثة عقود.
مستفيداً من تاريخ سوريا القلق، ثبت حافظ الأسد رئيساً للجمهورية استقرار الداخل السوري ومنع القلاقل التي كانت تطيح بالحكومات. وبدأ العمل حثيثاً ووئيداً على صناعة دور لسوريا يجعلها واحداً من مراكز الاستقطاب العربية، مثلها في ذلك مثل مصر والعربية السعودية. قبل حافظ الاسد كانت مراكز الاستقطاب العربية تتدخل في الساحة السورية تدخلاً مقبولاً ومأنوساً من قبل السوريين انفسهم. ومع حافظ الاسد صارت سوريا مركزاً من مراكز الاستقطاب التي يحسب حسابها في العالم العربي، وتحولت سوريا من ساحة إلى دولة تمارس نفوذها وتأثيرها في ساحات أخرى وتلعب دوراً يتعدى حدودها نحو دواخل الجيران.

قيض لحافظ الاسد ان يتزامن تسلم مهامه كرئيس للجمهورية العربية السورية مع وفاة جمال عبد الناصر ابرز قادة العرب واكثرهم امتداداً خارج حدود بلده. وبوفاة عبد الناصر لم يعد ثمة ما يمنع اي قائد عربي عن محاولة التنطح للعب الدور الذي اضطلع به الراحل الكبير. خليفة عبد الناصر مثلما يقول عن نفسه، كان عاجزاً عن وراثة دور السلف. والأرجح ان التردد المصري في حرب تشرين 1973 الذي طبع سلوك القيادة المصرية العليا بعد تحقيق الانجاز الذي تمثل بتدمير خط بارليف وعبور الف دبابة مصرية قناة السويس كان بسبب الخوف على الانجاز من ان يضيع. ويروى انه منذ تلك اللحظة اخذ الرئيس المصري انور السادات يحاول استدراج عروض وقف النار على الجبهة المصرية لإبقاء الوضع على ما هو عليه، اي وقف النار والجيش المصري في حالة انجاز كبرى. ذلك انه لم يكن في وسع الرئيس المصري الذي خلف عبد الناصر ان يتحمل اكلاف هزيمة كما كان يستطيع سلفه. لهذا ضرب ضربته الاولى وتوقف محاولاً المحافظة على هذا الانجاز. في مثل هذا الوضع الذي حف بالقيادة المصرية يومذاك كان من الممكن لسوريا ان تلعب دوراً مهماً وأساسياً بوصفها ركناً من اركان النظام العربي العام. وهذا ما اجاده حافظ الاسد اجادة تامة، وهو بالضبط اكبر انجازاته.
في سبيل استقرار سوريا جعل الرئيس حافظ الأسد يؤسس لتغذية نظامه واستقراره من شرايين خارجية. ويروي بعض اركان الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت قيد التأسيس في منتصف السبعينات بقيادة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط ان الرئيس السوري في احدى جلساته مع اركان الحركة الوطنية اخبرهم ان الرئيس السادات قبيل زيارته الشهيرة إلى القدس زار سوريا وفي جلسة الرئيسين قال الرئيس المصري لنظيره السوري، نحن امام واحد من خيارين اما الحرب واما السلام. وحيث اننا غير قادرين على الحرب فليس ثمة مفر من محاولة تحقيق السلام. لكن الرئيس السوري رفض هذا الضرب من التخيير قائلاً يمكن ان يكون خيارنا هو "اللاحرب واللاسلم". هذه العبارة الشهيرة التي نقلت عن الرئيس السوري اضحت في ما بعد اهم عباراته على الإطلاق. ومعنى اللاحرب واللاسلم بالنسبة للرئيس السوري انه لا حرب على سوريا ولا سلم على اسرائيل. وبكلام ادق ان سوريا لن تحارب كدولة لكنها ستنظم اشتباكات مع العدو من خارج حدودها وسترعى كل نوع من انواع المقاومة ليتسنى لها ان تحقق الشعار: سوريا امنة واسرائيل قلقة. اسرائيل تخوض حروب صغيرة على جبهات متعددة وسوريا تنعم بهدوء الدولة المحايدة.

على هذا الأساس رعت القيادة السورية مناوشات ضد اسرائيل من كافة الجبهات. لكن ما كان ينقص سوريا في هذا المجال هو امكان ضبط هذه المناوشات على ايقاع النظام السوري. منذ النصف الأول من السبعينات كان النظام السوري يحاول جاهداً تفريخ بدائل عسكرية وسياسية تعود ملكيتها له في معظم الأقطار المجاورة، من فلسطين إلى لبنان مروراً بالأردن والعراق وتركيا. ولم يكن النظام السوري يهتم لهوية الطرف المناوش الايديولوجية الذي يطلب تملك قراره او لأهدافه البعيدة المدى. على هذا رعت القيادة السورية تنظيمات فوضوية كما هي حال كارلوس، واخرى ماركسية متشددة مثلما هي حال عبدالله اوجلان، واسلامية كما جرى مع حزب الله اللبناني وبعض المناوشات على جبهة الاخوان المسلمين في الاردن، وصولاً إلى تنظيمات قومية في العراق وفلسطين وفي لبنان ايضاً. في نهاية الأمر كان الفيصل الذي يحسم في مسألة الدعم السوري لهذا التنظيم او ذاك هو مدى الولاء الذي يكنه للقيادة السورية ومدى قدرته على الطاعة.لا شك ان هذه السياسة كلفت جيران سوريا غالياً. فكان الدور السوري الركين يستمد قوته من شرايين خارجية، او لنقل بتسمية اصرح، كان النظام السوري يمارس سياسة قطاع الطرق الذين يفرضون خوة على جيرانهم تحت طائلة التعكير والشغب وتنظيم الاشتباكات الصغيرة. حروب صغيرة هي دون الحروب الفعلية لكنها مؤذية ومقلقة احياناً. ولم يكن النظام السوري يتورع عن استغلال اي بارقة ضعف في وضع احد جيرانه، فلم يتردد في ادخال جيشه إلى لبنان حالما لاحت له فرصة مناسبة، ولم يكف عن الشغب على الجانب التركي إلى ان حشدت تركيا جيشها على الحدود. وذهب به الأمر إلى تنظيم انشقاق على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وترتيب الجو لحرب اهلية فلسطينية – فلسطينية بعيد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس.

غني عن القول ان نظاماً يطمح إلى دور يتجاوز حدوده ليحمي استقراره الداخلي لن يكون مهتماً بتحقيق نتائج حاسمة في معارك جانبية، كانت جل غايته هي استمرار الشغب الذي يدير موازينه، لكنه لم يكن مهتماً بمصير المشاغبين. وهو على التوالي سلم مشاغبيه واحداً إثر آخر من كارلوس الذي تم ترحيله إلى السودان بين ليلة وضحاها، وصولاً إلى اوجلان الذي سلم للسلطات التركية. ولن ينجو من هذا المصير التنظيمات الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقرات لها، ولا ايضاً بعض المقاومة العراقية التي يعرض رأسها على الأميركيين كلما لاحت له الفرصة.