إيلي الحاج من بيروت: غادر رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس بيروت إلى باريس اليوم، وفي حقيبته مسودّة عن التقرير الذي سيقدمه خلال أيام قليلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان ، كي يعرضه بدوره على ممثلي الدول أعضاء مجلس الأمن ، ليأخذوا وقتهم في درسه قبل مناقشته في 15 كانون الأول / ديسمبر الجاري. يقولون في بيروت أن القاضي الألماني لم ينتظر خلاصات الاستجوابات التي سيخضع إليها المسؤولون السوريون الخمسة في فيينا بدءاً من الإثنين المقبل لوضع تقريره. والأرجح أنه ترك فراغات في المسودة ليملأها بأقوالهم لاحقاً، من دون توقع تغيير في الإستنتاجات التي توصل إليها مسبقاً. وكان لافتاً أن الرجل لم يُشر إطلاقاً خلال اللقاء الذي نظمه مكتبه مع بعض الصحافيين في مقر اللجنة أول من أمس إلى عزمه التخلي عن مهمة كشف قتلة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، بل بدا لبعض الحضور كاظماً غيظه، هادئاً يبتسم. وقيل أن رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة حاول خلال لقائهما في السرايا الحكومية أمس ثنيه عن قراره ترك المهمة التي كلفته إياها الأمم المتحدة بموجب عقد مدته ثلاثة أشهر تجددت ثلاثة أشهر أخرى ثم لم يعد يريد المزيد . وقال المسؤول المباشر عنه في الأمم المتحدة ابرهيم غمبري أن لجنة التحقيق ستواصل عملها، مع ميليس أو من دونه.

وقبل سفره إلى باريس أوضح ميليس لأحد الصحافيين الذين حادثوه من نيويورك أنه لم يستقل : "أحمل عقدا تنتهي صلاحيته في 15 من هذا الشهر، وأنا لا أترك لجنة التحقيق، لكن رب عملي هو بلدي ألمانيا، وعندي مهمات أخرى تنتظرني هناك".

وسأله الصحافي: هل أثرت قصة الشاهد السوري هسام طاهر هسام في اتخاذه هذا القرار؟ فأطلق ميليس ضحكة عالية، وأجاب:"أوه، كلا".

أسباب القرار

ولكن ما هي ما هي الدوافع المتداولة إلى قرار مدعي عام برلين المباغت؟ يعددونها في بيروت كالآتي:

- في البدء عوامل شخصية ترتبط بانهماكات الرجل وأوضاعه المهنية والشخصية. فلا شك أنه كان يتوقع إنهاء مهمته قبل مرور الأشهر الستة ، للانتقال بعدها الى مرحلة المحاكمة . وسيظهر له لاحقاً ان عمل اللجنة الدولية يحتاج الى تمديد لأشهر عدة وربما أصبح من غير سقف زمني، مما يتعارض مع عمل ميليس الرئيسي في بلاده.

- خشية الحكومة الألمانية الجديدة تبعات توغل ميليس في ملف اغتيال الحريري، والمتهمة الوحيدة فيها القيادة البعثية في سورية ، التي تبدو مصممة على مواجهة المجتمع الدولي. لا تريد برلين في هذه الحال أن يقدم رجل القضاء البارز فيها الذريعة لضرب النظام السوري على غرار ما فعلت اللجان الدولية التي كُلفت ملف اسلحة الدمار الشامل في العراق. ولا ترغب برلين ولا تتحمس لتحمل تهديدات وأخطاراضافية لمصالحها في المنطقة والعالم بدأت بوادرها بالظهور في العراق بعد خطف رهائن المان هناك ، رغم ان المانيا لم تشارك في حرب العراق.

هذا الموضوع يثيرحساسية بالغة للقيادة الالمانية الجديدة بقيادة المستشارة انجيلا ميركل الموضوعة تحت الاختبار، مما يدفعها الى اتباع سياسة حذرة متأنية ، بعيدة عن مشاكل من هذا النوع . ليس مستبعداً بالتالي أن تكون ميركل استدعت رجل القضاء الأبرز فيها للعودة إلى بلاده نهائياً وتركالموضوع لغيره.

- ظروف التحقيق الدولي التي جعلت ميليس غير مرتاح إلى أوضاع تحوط عمله من جوانب أمنية ولوجستية وإعلامية.

- أمور تتعلق بمجريات التحقيق ومساره تركت تأثيرا على مناخه العام ومواصفات رافقته منذ البداية، كالصدقية والجدية والمهنية والاحتراف، وكان أخرها وأبرزها موضوع الشاهد السوري المقنع هسام طاهر هسام،الذي يعتبر من شهود رئيسيين اعتمدت أقوالهم في تقرير ميليس الأساسي.
- مداخلات ووساطات عربية ودولية اقتحمت خط تحديد آليات التحقيق واطاره، وأدت إلى اختيار فيينا مكانا للاستجواب بدلا من مقر اللجنة الدولية في المونتيفردي، والإكتفاء بخمسة شهود بدلا من ستة، مما أوحى وجود قنوات ونوافذ خارج اطار لجنة التحقيق ومن "وراء ظهرميليس"، اذا صح التعبير.
ولعل الرجل استاء أكثر ما أستاء مما تردد عن إعطاء ضمانات للقيادة البعثية في دمشق ، وهي المتهمة الأولى والوحيدة في تحقيقه ، وعقد تسويات وصفقات معها ظهرت خيوطها الاولى في اعلان تلك القيادة استعدادها للتعاون والموافقة على التحقيق مع ضباطها المشبوهين ، وذلك في سياق حديثها عن تلقيها ضمانات، في وقت كانت دمشق محوراتصالات عربية ناشطة وتتلقى اشادة سعودية بتعقلها وحكمتها.
يبقى السؤال: هل يترك ميليس الملف طوعاً لأنه غير موافق على تغطية التحقيق الدولي للتسوية والتحوّل جزءا منها؟ ام فُرض عليه ترك الموضع لأنه بات عقبة في طريق التسوية واتمامها وما تفترضه من مرونة وتهدئة، ونقل التحقيق تالياً من مسار تصاعدي الى مسار تراجعي وعدم الوصول الى مرحلة العقوبات مع سورية؟
يبقى قرار الرجل الانسحاب من المعمعة مثيرا للجدل، في توقيته على الاقل، أيا تكن أسبابه والدوافع . وسيكون صعباً فصله عن حركة الوساطات الدولية التي تحاول إخراج القيادة سورية من مأزقها، والحؤول دون فرض عقوبات دولية عليها، على أمل أن تساهم دمشق في هذا الجزء ولا تسعى إلى نقيض مصالحها، على غرار ما تفعل حتى اليوم. علماً أن قرار ميليس في حقها جاهز ويستند إلى قرائن لا تحصى حسب المطلعين على أجوائه الذين يكررون تأكيداته أن لا متهم في قتل الحريري إلا دمشق!

وإذا كانت القيادة السورية قتلت الحريري، هل يتحمل الوضع الدولي والعربي إسقاط النظام البعثي فيها؟ الزعيم اللبناني وليد جنبلاط يقول باسم الأكثرية في لبنان "نعم ، وليس صحيحا أن لا بديل في سورية من هذا النظام" . أنان يقول حسب أجوائه المنقولة إلى بيروت "لا. الوضع الدولي والعربي لا يتحمل" . الأميركيون صامتون. وميليس قرف.