نصر المجالي من لندن: لن تشهد عواصم العالم العربي والإسلامي كلها وعواصم العالم الأخرى اتحادا في الحزن، كما شهدته صبيحة الأول من آب(أغسطس ) 2005 حيث انتقل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز إلى الرفيق الأعلى بعد صراع طويل مع المرض والألم الذي كان يتفوق عليه الملك الراحل بكل كبرياء وعزة الرجال. ومشهد المأتم الكبير برحيل أحد دهاة السياسة في القرن العشرين ومخططيها وواضعي لبناتها خاصة في منطقة الشرق الأوسط الكبير والعالم الإسلامي والعربي يثير ذكريات كثيرة وجليلة في كل حدث كبير تواجهه الجزيرة العربية برحيل فارس من فرسانها، وتستقبل عاصمة السعوديين اليوم زعماء العالم العربي والإسلامي وزعماء غربيين يتحدون مع نظرائهم في لحظة الوداع، وهو اتحاد عودتهم عليه المملكة العربية السعودية التي لا دستور لها إلا القرآن الكريم الداعي إلى التوحيد بين أبناء البشر كافة قبل أن توحد أرض مهبط الوحي ومبعث الرسالة الإسلامية الخالدة.

واصطفاف زعماء العالم كتفا إلى كتف غدا الثلاثاء لوداع الراحل الكبير إلى مثواه الأخير، لا يؤيد مبدأ التوحيد والوحدة بين الناس كافة في الدين والمبدأ والعقيدة وحسب بل هو رمز لما كان يعمل الزعيم السعودي العربي الإسلامي على تجسيده قولا وعملا في الحوار الحضاري العالمي. ولقد شهدت الرياض من قبل هذا مأتمين كبيرين لوداع ملكين سعوديين رحلا هما الملك فيصل بن عبد العزيز الذي اغتيل العام 1975 برصاص خائن جبان من ابن أخيه، وخليفته الملك الطيب الذكر وخالده الملك خالد بن عبد العزيز الذي ظل طوال سنوات حياته يعف عن الحكم وزاهدا به.

وفضلا عن كل المنجزات التي تحققت على أرض المملكة العربية السعودية التي أعطاها الراحل الكبير كل دأبه وجهده على الصعد كلها ابتداء من التعليم حيث كان أول وزير للمعارف في أول حكومة تشكلت في عهد والده المؤسس الراحل في مطلع خمسينات القرن الفائت إلى تسلمه حالة الأمن كوزير للداخلية في الستينات والسبعينات التي خلت، فإن الملك الراحل قدم للعالم وفي جرأة غير مسبوقة أول مبادرة للسلام في صراع الشرق الأوسط.

وحيث أعلنت الجامعة العربية اليوم عن تأجيل قمة استثنائية كان مقررا أن تعقد بعد غد في شرم الشيخ بناء على طلب مصري، فإنه لا بد من التذكير بأنه في العام 1982 ، قدم الملك (الأمير آنذاك) فهد بن عبد العزيز، وكان وليا للعهد مبادرة للسلام تبنتها قمة فاس العربية، والمبادرة التي أطلق عليها اسم مشروع الأمير فهد دعت إلى سلام دائم واعتراف متبادل بين العرب وإسرائيل ووقف أعمال الإرهاب وقيام الدولة الفلسطينية. ومشروع الأمير السعودي تزامن أيضا مع مبادرة كان اقترحها الرئيس الجمهوري الأميركي الراحل رونالد ريغن الذي كان هو الآخر أول مؤيدي مشروع الأمير فهد السلمي.

وما كان ورد في مبادرة الفهد السلمية العام 1982 ، لا يبتعد كثيرا في تفاصيله عن مبادرة الأخ غير الشقيق ووريث الحكم الملك عبد الله بن عبد العزيز للسلام في الشرق الأوسط التي أقرتها قمة بيروت العام 2002 ، وصارت مشروعا عربيا، حتى أنها صارت جزءا مكملا لخريطة الطريق الشاملة للسلام في الشرق الأوسط بقرار من قمتين للدول الثماني الكبرى اللتين عقدتا في سي آيلاند الأميركية في العام الماضي ومنتجع غلين إيغلز في سكوتلندا بقيادة بريطانية هذا الصيف.

ومن القضايا التي وحد بها خادم الحرمين الشريفين الراحل، ولا زال العالم يتذكرها بإعجاب وتقدير كبير، هي حشده العالمي لتحالف دولي لطرد قوات الغزو العراقي في عهد الدكتاتور السابق صدام حسين حين غزا الجارة الخليجية في الثاني من آب (أغسطس) قبل خمسة عشر عاما.

وواجه العالم في صيف العام 1990 مأزقا خطيرا، خاصة في منطقة الخليج والشرق الأوسط، انتهى بغزو قوات صدام لدولة الكويت الجارة على الكتف الشمالي للخليج، وحيث لا جدوى من عمل سلمي عربي حاول زعماء عرب المضي إليه، فإن الملك الراحل رأى أن عدوانا كهذا يخترق كل المواثيق والشرعية الدولية لا بد أن يعاقب مرتكبه بعمل عسكري دولي عبر تحالف كبير، وفعلا تحالفت 28 دولة من بينها مصر وسورية وهما أكبر دولتين عربيتن مشرقيتين إضافة الى دول الخليج العربي الست في مجلس التعاون ، وارسلت الولايات المتحدة الحليفة الدائمة للسعودية على الفور قواتها المجوقلة لتنفيذ المهمة بناء على طلب من العاهل السعودي بعيد النظر استراتيجيا. وكانت النتيجة أن تحررت دولة الكويت وعادت إليها شرعيتها التي كانت مملكة آل سعود منحتها الجيرة في المنفي في مدينة الطائف. وأخيرا، هذا هو الفهد يرحل ووداعا وداعا، فالعالم يتحد لوداعه.