عادل درويش من لندن: كان للمغفور له، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، مكانة خاصة في قلوب البريطانيين، ذهبت ابعد من الاعجاب التقليدي بنظم الحكم الملكية التقليدية، والصداقة التاريخية العميقة التي ربطت الراحل عبدالعزيز بن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، بعمالقة الدبلوماسية البريطانيين مثل جرترود بل، والسير بيرسي كوكس اثناء واحد من اكثر الفصول رومنسية في تاريخ علاقة بريطانيا بالعرب.

كان الإعجاب ينمو كل مرة يتعامل فيها الصحافيون والمعلقون مع الفقيد الراحل. كان قد وعي بأهمية العمل الدبلوماسي في توسيع رقعة الصداقة الدولية والدفع بالمصالح العربية والإسلامية عن طريق تكوين صداقات دولية عندما كان لايزال وليا لعهد المملكة في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات قبل توليه رعاية مملكة تضم اقدس مقدسات مسلمي العالم.
وكانت بداية سلسلة من مبادرات لفتت انتباه المعلقين والصحافيين في فليت ستريت، فترة وجيزة بعد توليه ادارة شؤون المملكة، هو دوره التاريخي في قمة الرباط عام 1982، بعد الغزو الإسرائيلي لبيروت وخروج المقاتلين الفلسطينيين الى تونس، في اول مبادرة سلام جادة، عرفت بمبادرة فهد، وكانت الأساس الذي بنيت عليه كل مبادرات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد ذلك.

وكانت زيارة الدولة التي دعت فيها الملكة اليزابيث الثانية الملك فهد عام 1987، نقطة تحول اخرى في علاقة شارع الصحافة البريطاني معه، عندما اقام له مهرجانا صحافيا كبيرا وبداية شلال من الاهتمام ، من الناحية الإنسانية، بالملك فهد، وبآل سعود، وبعمق الصداقة بين دار سعود ودار ويندسور، وهي صداقة تنامت في كل المجالات وتضاعفت في عهد خادم الحرمين، وتبلورت في طريق من اتجاهين، الأول تدفق تبرعات الراحل على الأعمال الخيرية والمدارس ومراكز التعليم الإسلامي في بريطانيـا وفي الاتجاه الآخر تبني ولي العهد البريطاني الامير تشارلز لكثير من القضايا الاسلامية وتكرار زياراته للمملكة وتفهمه العميق للإسلام وترؤسه لكثير من مؤتمرات التفاهم وحورات الأديان السماوية.

التقى خادم الحرمين مجموعتين من الصحافيين اثناء زيارته الرسمية للندن، مجموعة من المحررين العاملين في الصحف الصادرة باللغة العربية، ولقاء آخر مع الصحافيين البريطانيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط.

ولوحظت الصراحة والمباشرة، الى جانب التواضع غير المسبوق من رئيس دولة في مكانته، والإجابة عن كل الأسئلة، بشكل كان مفاجأة للمجموعتين. فوجئ محررو الصحف العربية بصراحة المغفور له، ورفضه مجاملات البعض، ورياءهم، حيث كان صريحا في اوجه القصور التي تعانيها المملكة والتعبير عن رغبته في التطور والإصلاح الديمقراطي، وابدى تعاطفا مشجعا للصحافيين الذين تحدثوا بصراحة، بينما كان فاترا، مع من حاول المنافقة، وان لم يفقد روح المجاملة معهم.
اما المفاجأة الأكبر فكانت لمراسلي فليت ستريت في المأدبة التي اقامتها، حيث تبدلت الصورة المسبقة التي كانت في اذهان البعض، خاصة وان معظمهم وقتها لم يكونوا قد زاروا المملكة في زمن صعب فيه الحصول على الفيزا، خاصة بالنسبة الى الصحافيين.

كان رحمه الله كريما وبشوشا مع الصحافيين، ودعا من بدا متشككا من طريقة السؤال لزيارة السعودية للاطلاع بنفسه. واسهب في الحديث عن تصوره بالنسبة الى التطوير والإصلاحات والسير على درب الديمقراطية ستة عشر عاما قبل ان يفكر الأميركيون والأوروبيون في الدعوة للإصلاح. وقدم خادم الحرمين وقتها تحليلا ممتازا عن الوضعية الخاصة للمملكة ومسؤوليتها التاريخية في الدوائر الخارجية بالنسبة الى المحيط العربي وبالنسبة الى العالم الإسلامي عامة والإلتزامات تجاه الشعب السعودي نفسه خاصة.

والناظر اليوم لهذا اللقاء الذي كان قبل 18 عاما، يدرك مدى عمق حكمة فهد آنذاك ورؤيته المستقبلية، اذ اشار الى ضرورة التعامل بحساسية شديدة والحفاظ على توازن صعب في مسيرة التطور السياسي الديمقراطي، والتحديث الاقتصادي للمملكة، بتنبيه الصحافيين الى ان الدولة تستمد مكانتها من رعايتها لأقدس الأماكن بالنسبة الى المسلمين، وبالتالي فالتحدي هو في حمل المؤسسة الدينية في مركبة القيادة السياسية نفسها على طريق التطور، لتبارك هذا التطور كي يتم بشكل لايثير حفيظة رجال الدين التقليديين في المملكة، او في بلدان العالم الاسلامي البعيد. وشرح يومها ان التطور والتحول الديمقراطي سيكون بطيئا ويستغرق وقتا طويلا، جيلا او اثنين، لكنه سيستمر باتئاد ولن يتراجع؛ والتجربة تشير الى هذا الاستمرار.
اما الإرث الذي خلفه الراحل في قلوب البريطانيين فكان قبل اثني عشر عاما، عندما سمع بتقرير عن خبر صغير في شمال شرق انجلترا، لطفلة اسمها لورا، مريضة بعلة في قلبها ورئتيها، ولاعلاج لمرضها العضال في بريطانيا، واسرتها الفقيرة لاتدري ماذا تفعل. كان ذلك بعد اقل من عامين على تحرير الكويت، وصدام حسين لايزال يهدد الخليج كله، ومشاكل متنامية مع الإرهاب والمتطرفين، وقضايا كبيرة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي كله، لكن، رحمه الله، اهتزت مشاعره لمأساة الصغيرة لورا، وليومين، نوب خادم الحرمين ولي العهد والوزراء للتعامل مع المشاكل العويصة، ليتابع بنفسه حالة الصغيرة لورا، ويأمر بنقلها الى اميركا لعلاجها على نفقته الخاصة وتوفير تذاكر السفر والإقامة في اميركا لأسرتها.
ويومها توحد خيار جميع محرري فليت ستريت للصفحة الأولى، ولخصت صحيفة الصن الشعبية الموقف بعنوان كبير وصورة خادم الحرمين تحتها " ملك القلوب." وهو الوصف الذي يذكره شارع الصحافة البريطاني للملك فهد، رحمه الله.