فريق الغطس ينتشل قطعة من قبالة موقع اغتيال الحريري (الصور لايلاف وائل اللادقي)
إيلي الحاج من بيروت: 14 آذار/مارس الماضي ، كان بحر الناس يغطي المدينة، قال لوليد جنبلاط مَن حوله : من تريد لرئاسة الجمهورية؟ كان تفاؤل المعارضين كبيراً بأن الشعب حسم النزاع بحناجره والأقدام ولم يتوقع أحد ذلك اليوم أن يتمكن الجنرال إميل لحود لاحقاً من تشتيت الشعارات والهتافات بمعاونة الجنرال الآخر العائد من وراء البحار. وعد الجنرال عون جمهوره بأنه راجع ووفى. وعد الجنرال لحود الجنرال عون، لقاء أن يحميه من ذئاب المعارضة، بأن يرجعه إلى قصر بعبدا الذي أخرجه منه على رأس قوة من الوحدات الخاصة السورية، ذات 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990 .

أجاب جنبلاط: لو عاد الأمر لي ، سمير فرنجية . ليس عندي إسم آخر . إذا لم يقبلوا – يعني أولاً البطريرك الماروني نصرالله صفير- فلينتقوا أي عضو من أعضاء "لقاء قرنة شهوان"، لا مشكلة. وكاد يضيف: لكن لا رأي لمن لا يُطاع.

يعرف جنبلاط جيداً لعبة الطوائف اللبنانية، حساسياتها وتوازناتها. مع ذلك قرر وحليفه سعد الحريري التحالف مع خصوم 14 آذار(مارس) ،"حزب الله" وحركة "أمل"، أمام أعين الجمهور المعارض المسيحي الذي توهم أنه حقق انتصاراً ذلك اليوم. وصل الجنرال عون ثم الإنتخابات النيابية وكانت "قرنة شهوان" موقعاً سياسياً ساقطاً بعدما تخلى عنها في آن واحد قائدا السنّة والدروز، وكذلك البطريرك الذي لطالما أقنعه أعضاء في اللقاء ، لا سيما منهم سمير فرنجية الذي كان الأقرب إليه، بأن حلفهم مع الحريري وجنبلاط هو لمصلحة المسيحيين واستعادة موقعهم ودورهم في لبنان .

سحق عون "القرنة" بالتصويت الكاسح، متحالفاً بالطبع مع الدائرين في فلك لحود والنظام السوري المنسحب. ولكن لم يكن أمام جنبلاط في تلك المرحلة إلا أن يرتكب ما ارتكب. فبعدما وصل إحدى المرات خلال محاضرة ألقاها بالفرنسية أمام جمهور من طلاب جامعة القديس يوسف- معقل اليمين المسيحي التقليدي- إن "حزب الله" قوة "مخيفة، ونحتاج إلى حماية دولية" أعاد حساباته ووجد أن أفضل حماية من الحزب هي الحزب نفسه. وقيل أنه تلقى تلك الأيام تهديداً مباشراً: "تعرف أننا يمكننا الوصول بالقوة إذا لزم الأمر إلى المختارة" ، معقل زعامة عائلته التاريخية في جبل الشوف. على الأثر طلب موعداً من الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله وأخذت صور التحالفات تتغيّر رويداً رويداَ. ووصلت حد توفير الحزب لجنبلاط دعماً شعبياً أتاح له إيصال عشرة نواب في دائرة بعبدا – عاليه، وخمسة في البقاع الغربي، دين هائل سيكون على جنبلاط إيفاؤه سياسياً ، وفوق ذلك يتلقى دعماً مالياً شهرياً لحزبه بطابع تجاري وفرته إيران التي يزورها باستمرار. ماذا يمكنه أن يطلب أكثر لقاء تخليه عن توجهات لا ترضي الحزب الشيعي ؟ طبعاً كان الزعيم الإشتراكي يفضل وضعاً يسمح له بتكرار عبارة والده كمال جنبلاط، الشهيرة بعيد إسقاط الرئيس بشارة الخوري إثر تمديد ولايته والإتيان بكميل شمعون رئيساً للجمهورية: "قلنا لهذا كُن فكان، وقلنا لذاك زل فزال". لكن وضع جنبلاط الإبن يختلف. كاد يقول لسائليه عن مرشحه للرئاسة بعد لحود: لا رأي لمن لا يُطاع.

قبل أن يعود من زيارته الأخيرة إلى باريس ، الخميس، صرّح أنه يريد أن يلتقي السيد نصرالله ورئيس "أمل" ومجلس النواب نبيه بري. والبطريرك؟ سألوه فأجاب: " إذا كانت ثمة ضرورة أزوره". لم يكن يخطر بباله يوماً أن "وجع الرأس" سيأتيه من صوب الشيعة الذين يُطالب الجنرال عون بنزع سلاحهم تطبيقاً للقرار الدزلي 1559 . في باريس عرف جنبلاط أن الحزب الذي يتابع التطورات على غرار "خلية الأزمة" التي تكوكبت حول الحريري في باريس يتجه إلى اعتماد عون مرشحاً مفضلاً لخلافة لحود. عون وجنبلاط كالماء والزيت ، بالأحرى كالنار والبارود. هرع الزعيم الدرزي طالباً موعداً للقاء نصرالله لكن اللقاء لم يحصل بعد. ثمة مايبعث على القلق فعلاً. الرئيس بري؟ عندما صدرت نتائج انتخابات مجالس البلديات العام الماضي انكشف شعبياً، وعندما انسحب السوريون جيشاً وتأثيراً مباشراً انتهى دوره السياسي ، فاختبأ تحت عباءة السيد . بري مع نصرالله مثل لحود مع نصرالله...صفير. لا يفيد جنبلاط الإجتماع ببري.

يحسبها في ذهنه: فرنسا لا تؤيد عون، واضحة. السعودية ستقف عند رأي حليفه الحريري الذي لا يستسيغ الرجل ويخشى أن يكرر معه ما فعل لحود بوالده الراحل في تناحرهما، لكنه لا يعاديه في المطلق كجنبلاط . الولايات المتحدة ؟ تعب سفيرها في لبنان جيفري فيلتمان من التكرار للسياسيين الذين يلتقيهم ، ولا سيما من المسيحيين اللبنانيين أن بلاده لا تؤيد عون ولا تميزه عن غيره ، إلا في مايتعلق بمناداته بتطبيق القرار 1559 . رغم ذلك يخشى جنبلاط تأثير اللوبي اللبناني المسيحي المؤيد لرئيس حكومة العسكريين في واشنطن. ثم، هل توصل الوسطاء بين عون و"حزب الله" إلى صيغة حل سرية ؟ وأين سورية من الموضوع ؟ زوار دمشق القلة يشيدون بدأب بالجنرال الذي كانوا يصفونه بأنه "قائد التمرد". كيف تنقلب المواقف رأساً على عقب في هذا الشرق ولا يتغيّر الرجال؟
في جلسة في باريس كان اتفاق عشية مؤتمر رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس أن رئاسة لحود "هرهرت" . توقيف الضباط الأربعة ، ولا سيما قائد الحرس الجمهوري ، نزع مخالبه والأنياب. لكنه سيكابر كأي رئيس عربي أو إفريقي يصاب بالهزيمة ويرفض، بالطبع، مغادرة قصر الرئاسة، متصرفاً كأن شيئاً لم يكن . لم يبتكر الرئيس اللبناني في قاع ورطته أداءً جديداً. تقليدي. في بحث البدائل ، سئل قطب سياسي لبناني في العاصمة الفرنسية : ماذا إذا قال بطريرك الموارنة إن كل طائفة تتمثل في الدولة بالأقوى لديها إلا نحن . نريد رئيساً قوياً؟

الرئيس القوي يعني الجنرال الآخر، عون. وكان مفاد الجواب : نردّ بأن الحق معك تماماً سيدنا. يجب أن تتمثل كل طائفة بأقوياء يمثلونها في الدولة . لذلك نرشح لمنصب رئاسة الجمهورية ، حليفنا الدكتور سمير جعجع.
سيكون موقفاً قاسياً تخيير البطريرك بين الرجلين اللذين نتج من تصادمهما في ماسمي "حرب الإلغاء" عام 1990 تدمير مقومات كل ما كان يُعتبر نفوذاً لطائفته في لبنان. مجرد المنافسة وإن سياسياً وديمقراطياً بينهما تحيي ذكريات أليمة يخشاها البطريرك. صحيح أن الانتخابات النيابية مرت على خير، لكنها جرت في ظل مفعول زيارة عون لجعجع قبل إطلاقه في سجنه في وزارة الدفاع . ويُقال أنه عرض عليه التحالف معه لتشكيل جبهة مسيحيين واحدة في وجه الحريري وجنبلاط والآخرين. جعجع لم يقبل.

كان ثمة رأي في "خلية الأزمة" في باريس أن لبنان لا يتحمل رئيساً للجمهورية تنطبق عليه صفة "القوة". وأنه يحتاج بالحري إلى رئيس يرعى التسويات والنزاعات بدبلوماسية ويكون قريباً من كل الأطراف، ماأمكن، أو صاحب قدرة، على التقرب منها جميعاً، مواصفات تبعد كلاً من عون وجعجع {وزير الإتصالات مروان حمادة القريب من جنبلاط قال بوضوح من باريس: "إن ذكر الجنرال عون مرشحاً للرئاسة غير منطقي. ثم إن اي عملية حسابية للأكثريات في مجلس النواب تؤكد استحالة وصوله إلى هذا الموقع أياً تكن التحالفات والترتيبات . هذا المجلس لن ينتخب ميشال عون للرئاسة. ولن يأتي أمر بذلك من دمشق . ولن نذعن لأوامر آتية من واشنطن. ليكن الامر واضحاً"}.
"عند التوصل إلى هذا الإقتناع نبدأ جدياً بتداول أسماء المرشحين" ، قال أحدهم من الذين تابعوا اتجاهات "خلية الأزمة".

وعدّد، على سبيل المثال على الحصر: بطرس حرب لا يستطيع أحد التشكيك في تمثيله الشعبي ومواقفه الوطنية. فاز في منطقته وفي الدائرة الانتخابية الأوسع على السواء . مخضرم وقانوني وذو علاقات في كل الاتجاهات ، وكلمته في جلسة مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة كانت أشبه ببرنامج رئاسي متكامل.

نسيب لحود جرفته أصوات مؤيدي عون لكن تلك الموجة الإستثنائية، التي بدأت تنحسر وستنحسر أكثر إذا أحسن فريق 14 آذار الأداء في المرحلة المقبلة ، لا تلغي أن الرجل يمتلك مواصفات رجل دولة من الطراز الرفيع ، فضلاً عن شبكة علاقات محلية ودولية من واشنطن إلى الرياض ، وحتى دمشق . مخايل ضاهر من المحتملين أيضاً ومؤهل لدور الرئيس المعتدل الذي يدير الاختلافات ولا يحسمها . خسر في الانتخابات النيابية في مواجهة لائحة الحريري ، لكنه ظل على علاقة جيدة به ، وهو قانوني كاد يصبح رئيساً بتوافق أميركي سوري عام 1988 وأحبط خط سيره توافق آخر مفاجىء ضده بين عون وجعجع. النائب روبير غانم أيضاً من الطينة نفسها، والده الرحل اسكندر غانم كان جنرالاً قائداً للجيش، لكن ابنه يقف مع المدنيين دوماً.

وفي حديث العسكر، ثمة جنرال آخر يلفت في هذه المرحلة الدول المهتمة بالشأن اللبناني هو قائد الجيش الحالي العماد ميشال سليمان، ذلك لأن أداءه تميّز بالتفهم العميق للمتغيرات منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري . منذ تظاهرة 14 آذار التاريخية بدا واضحاً أن سليمان سحب البساط من تحت أقدام لحود، ففرش السجاد الأحمر أمام معارضيه. وقيل أن دوائر الخارجية في بريطانيا طرحت اسمه للاستطلاع في السعودية والأردن. وفي باريس يراقب من كثب العقيد جوني عبده ، السفير والمدير السابق لجهاز المخابرات العسكرية، اتجاهات الرياح السياسية ويقيس أشرعته وحظوظه التي اغتالوها مع الحريري في رأس بيروت. لو نجا رئيس الحكومة السابق من ذلك الإنفجار لقال على طريقة جنبلاط: "لو رجع الأمر لي، جوني عبده".

فليسأل من يسأل ألم يعد بين الموارنة رجال دولة إلاأصحاب النجوم والجزمات الثقيلة الوطأة ؟