د.عبدالله المدني : ما بين الهند ومنطقة الخليج و الجزيرة العربية من الروابط و الصلات التاريخية ما قد لا نجد صنوا له بين علاقات الأمم المتجاورة، سواء لجهة الجذور التاريخية أو لجهة نوعية التفاعلات والتأثيرات المتبادلة. تعود بدايات العلاقة إلى الألف الثالث قبل الميلاد - بحسب ما تقوله الحفريات والدراسات الأركيولوجية التي أجريت في بعض مناطق الهند و وسواحل الخليج العربي - و ذلك حينما نشأت روابط تجارية وملاحية ما بين حضارة وادي الأندوس وحضارة الرافدين القديمتين. وقتها لعبت منطقة الخليج، بسبب من موقعها الجغرافي ما بين تلك الحضارتين والازدهار النسبي لبعض ممالكها (كمملكتي دلمون و ماجان) دور المزود للسفن المتنقلة ما بين الهند وبلاد الرافدين بالمواد الغذائية والمياه العذبة.

وهكذا كانت البدايات محصورة في التعامل التجاري والملاحي غير المباشر. وظلت كذلك لفترة طويلة قبل أن يتعرف أهل الخليج على فنون وأساليب ودروب الملاحة والتجارة المباشرة مع الهند ، ويوظفوا خبراتهم في احتكار الكثير من عمليات التصدير إلى هذه البلاد والاستيراد منها، فيظهر على هامش الروابط التجارية بعض العلاقات الاجتماعية المحدودة.

وقبل ظهور الإسلام بوقت طويل - طبقا لما هو موثق في الشعر الجاهلي الذي يعتبر أحد المصادر الهامة لتأريخ أحداث وأوضاع مجتمعات شبه الجزيرة العربية القديمة - عرف أهل الخليج والجزيرة الهند، وأعجبوا ببضائعها من حرير وبخور وطيب وأحجار كريمة ومعادن وتوابل، وأشادوا بحكمة أهلها ومعارفهم. وبلغ إعجاب العرب بالهند حد إطلاق اسم quot;هندquot; على بناتهم وإطلاق اسم quot; المهندquot; على سيوفهم.

وقبل الفتح الإسلامي لبلاد السند بسنوات طويلة، كان هناك من أبناء الحجاز من عبر الصحاري والبحار للوصول إلى الهند. وتروي بعض المصادر التاريخية أن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب التقى بأحد هؤلاء وطلب منه أن يخبره عن الهند فكان رده : quot; بحرها در وجبلها ياقوت وشجرها عطرquot;. وهذا الوصف يتناقض مع ما قاله حكيم بن جبلة العبدي للخليفة عثمان بن عفان عن الهند وهو quot; ماؤها وشل وثمرها دفل ولصها بطل ، إن قل الجيش ضاعوا وان كثروا جاعواquot;. لكن هذا التباين يجب ألا يثير جدلا لأن الحديث هنا عن بلاد كانت ولا تزال شاسعة في مساحتها ، متنوعة في تضاريسها ومناخها وخيراتها ، كثيرة في عجائبها ومتناقضاتها.

وكان لمجيء الإسلام في القرن السابع الميلادي ونجاح المسلمين في فتح العراق وبلاد فارس وانتقال عاصمة الدولة الإسلامية من مكة إلى دمشق ثم لاحقا إلى بغداد أثره الايجابي على حركة التجارة ما بين الهند والخليج. ذلك أن قيام دولة موحدة مترامية الأطراف ونمو مدنها القديمة وظهور حواضر جديدة فيها أدى إلى خلق كتلة شرائية كبيرة ، الأمر الذي ساهم في رفع وتيرة الاستيراد من الهند عبر الخليج، وبالتالي ازدهار العلاقات التجارية ما بين المنطقتين وتشعبها. كما ازدهرت على هامشها وللمرة الأولى العلاقات الثقافية والفكرية والاجتماعية، ولا سيما في عهدي هارون الرشيد وابنه المأمون اللذين عرفا بانفتاحهما وتشجيعهما للمسلمين على الاقتباس من علوم غير المسلمين والتواصل مع حضارات الآخر دون حساسية وترجمة إسهاماته العلمية والفكرية والبناء عليها. ففي عهديهما الموسومين بالفترة الذهبية للعلاقات العربية-الهندية القديمة انتقلت ثمار الإبداعات الهندية إلى العرب عبر ترجمة عدد كبير من المؤلفات الهندية إلى العربية في الأدب والفلسفة والرياضيات والفلك وسموم الأفاعي وأمراض النساء وعلاج الحبلى وعلم الأوردة الدموية وصناعة الأدوية ، وعبر دعوة العلماء والفلاسفة الهندوس إلى البلاط العباسي وجلب الأطباء والمدرسين والبناءين من الهند لتنظيم المستشفيات والمعاهد العلمية وتشييد القصور وإرسال طلبة العلم إلى الهند للتخصص في الطب والصيدلة ، الأمر الذي ساهم إلى حد بعيد في وضع اللبنات الأولى لنهضة عربية علمية وأدبية.

وعلى هامش كل هذه التطورات جاء الكثيرون فرادى من الهند إلى بغداد التي كانت في تلك الأزمنة مدينة كزموبوليتينية تعج بالثروة والفرص والنشاط والإبداع. ومن ناحية أخرى نشطت في تلك الحقبة من تاريخ العرب حركة الكشف الجغرافي والتدوين التاريخي التي حملت عددا من الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب على السفر إلى الهند. فظهرت على أيديهم أوائل الكتب العربية من تلك التي تصف الهند وأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعادات أهلها وتقسيماتهم العرقية والمذهبية. وبعض تلك المؤلفات خطت بأيدي تجار من الخليج من أمثال سليمان التاجر وبزرك بن شهريار.

وفي فترة ما قبل ظهور الإسلام وبعدها حدثت تحركات ديموغرافية ما بين الخليج و شبه القارة الهندية في الاتجاهين ، من شواهدها المهمة نزوح أقوام من الهند باتجاه الخليج أولا ومن ثم باتجاه مناطق أخرى مثل الحجاز و البصرة وبلاد الشام ، واشتغالهم فيها كجنود مقاتلين أو كحراس على ظهر السفن التجارية الخليجية أو كخدم للتجار ومالكي المراكب.

و من شواهدها أيضا نزول المهاجرون والتجار من شبه الجزيرة العربية على سواحل الهند الجنوبية واستقرارهم بها واختلاطهم بسكانها و اقترانهم بنسائها ونشرهم لعقيدتهم الإسلامية بين أهلها، مستفيدين من أجواء التسامح الهندي. و هكذا ظهرت في جنوب الهند مستوطنات عربية وأجيال مختلطة الدماء. والذين يسمون اليوم في ولاية كيرالا باسم quot; موبالاسquot; ، أو أولئك الذين يعرفون في ولاية كارناتاكا بالبتكلية ، هم في الواقع أحفاد المهاجرين الخليجيين الأوائل ممن وصلوا إلى سواحل مليبار واستقروا بها وتصاهروا مع سكانها. ويستند البعض إلى حقيقة هذه الروابط القديمة ما بين الخليج وساحل مليبار الهندي لتفسير ظاهرة من الظواهر المعاصرة وهي أن أكثر من 45 بالمئة من إجمالي عدد العاملين الهنود في منطقة الخليج هم من ساحل مليبار أو ما يعرف حاليا بكيرالا.

أما في الحقبة التي هيمنت فيها بريطانيا على الخليج (باستثناء الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية) و الهند معا، فقد تشعبت علاقات الطرفين و تعززت صلاتهما بمثل ما لم يحدث سابقا، لا سيما في ظل ارتباط الخليج إداريا بحكومة الهند البريطانية و اعتماده على بومباي في تصريف محصول اللؤلؤ و استيراد الطعام و الكساء و الدواء و تعليم أبنائه. وعلى هامش هذا الوضع الجديد تأثر أهل الخليج بالهند، و امتدت هذه التأثيرات لتصل إلى مختلف المجالات بما فيها الأزياء و النقوش و الأثاث المنزلي و اللهجة الدارجة و الموسيقى و الطعام.
فلا عجب بعد إن وجدنا اسم الهند يتردد في كل موروثات الخليج الفلكلورية، ابتداء من أهازيج الغوص و الأمثلة الشعبية، و انتهاء بأناشيد الصغار و ألغازهم، أو إن علمنا أن أصل كلمة quot;غترةquot; التي تشير إلى احد أهم مكونات زي الرأس الخليجي هو هندي من مفردة quot;كوتراquot;.


* باحث و محاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي
-خاص بإيلاف