قبل نحو عام تناولنا الغداء في احد مطاعم قلب بيروت مع الشهيد الحي مروان حماده. كنا مجموعة صغيرة جدا انضم اليها الرئيس امين الجميل الذي استمع بانصات لشرح مفصل من مروان عن اداء ابنه بيار وزير الصناعة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. قال له انه يتقن تحضير ملفاته وكأنه ولد وزيرا، ويتقن الدفاع عن آرائه كأنه ولد سياسيا محنكا، ويتقن تمرير مشاريعه التي اعدها لتطوير وزارته كأنه ولد ديبلوماسيا، ويتقن التواصل مع جمهور قاعدة الكتائب الشعبية وغيرها من قواعد 14 مارس كأنه ولد زعيما شعبيا، والاهم من هذا وذاك ndash; في نظر مروان ndash; انه يحافظ على ابتسامته وتفاؤله في احلك الظروف كأنه ولد ناسكا متفائلا بقوة الحق.

رد الرئيس الجميل:quot; مشكور يطول عمرك... الله يحميهquot;.
في اليوم التالي تماما، كنا على موعد غداء في المطعم نفسه، في قلب بيروت، وكان بيار امين الجميل ومدير مكتب الامم المتحدة في بيروت سابقا الصديق العزيز اللامع نجيب فريجي. يومها لفت بيار الانظار الى خروجه من سيارة فيها سائق واحد وبلا مرافقين، يحمل الجاكيت على كتفه ويغلق الباب خطأ على اطرافها. يخرج السائق كي يساعده في فتح الباب فيتدبر هو امره وتكون الحادثة اول quot;مقبلاتquot; الجلسة حين نسأله كيف يتنقل بهذه البساطة وبلا مرافقين فيرد بانه انسان قدري quot;وما مكتوب له ان يحصل سيحصلquot; ثم سأل هو الحاضرين:quot;وهل تعتقدون انهم يتجرأون على الاغتيال اكثر؟ هل يستطيعون بسهولة تنفيذ مخططاتهم في ظل التحقيق الدولي والالتفاف الشعبي حول القيم الجديدة في لبنان؟quot;.
ثم حل الموضوع الرئيسي فاخبرته بغداء الامس وما قاله الوزير حماده عنه لوالده. كانت عيناه تلمعان وتبتسمان كما تفعلان دائما، لكنه قاطعني رغم كل المديح الذي يسمعه من قامة مثل مروان ليسألني:quot; وشو قال البابا؟quot; فاجبت ان الوالد quot;دعا الله ان يحميكquot;. تحول البريق في عينيه الى مدار قلق وحزين في اقل من ثانية وقال :quot;كل مرة يقبلني ويودعني اشعر انه يخاف علي كما لو كنت ما ازال طفلا صغيراquot;.
quot;شيخ شبابquot; آل الجميل، لم يمتع بالشباب. احترق قلب بيروت ولبنان عليه في الثلاثاء الاسود. غادر حضن والده شابا صغيرا وعاد اليه شهيدا كبيرا بلا مراحل انتقالية. كان مهتما برأي والده فيه اكثر من اي شيء آخر. ليتك سمعته والعبرات تخنقه ماذا قال عنك امس، ماذا قال عنا، ماذا قال عن لبنان. كان بوحه ودمعه وتماسكه اعلى صوتا من كواتم الصوت التي هزت العالم.
quot;وشو قال البابا؟quot;، سأقول لك quot;شو قالquot;، دعا الى جعل الليلة ليلة صلاة، طالب الذين يحبونك ان لا يتصرفوا بشكل غرائزي، وان يفكروا بمعنى الشهادة وكيفية حماية الوطن وعدم الانجرار الى الفتن والانتقامات. كان يرفع رأسه فخرا كلما ذكر اسمك فيما اكتافه تنحني اكثر حزنا على شبابك.
قبلك ظهرا وانت تضع اكليلا من الورد على ضريح جدك، وودعك وانت تغادر لتقديم واجب عزاء. سقطت بين المأتم والضريح، بين الورد وعمره، بين اجراس الكنيسة وأزيز الغدر. سقطت في وضح النهار لانك تعمل في وضح النهار. رصدوك وما كنت لتهتم، وتابعوك وما كنت لتقلق، وغدروك وما كنت لتحتاط، واغتالوك وما كنت لتعتقد ان موكب الشهادة اختارك لحاجته اليك.
ماذ قال الشيخ امين ايضا، ماذا قال... تذكرت، تمنى ان يكون استشهادك العزاء الاخير للبنان من اجل قيامة سيادية سلمية، لكنك تعرف ونعرف ووالدك اول من يعرف واكثر من يعرف، ان لا عزاء لهذا التمني.
يا سعادة الراحل ومعالي الشهيد، شاركت في العزاء الاخير ثم صرت سيده. وثقت كثيرا بصوتك فخانك كاتم الصوت... لكن احدا لا يستطيع منع آلاف الازهار من التفتح على طيف شبابك.
اليوم يستطيع ان يكمل الشهيد الحي مروان حماده رأيه فيك فيضيف :quot;يحارب كأنه ولد شهيداquot;.
يا quot;شيخ الشبابquot;... هناك اشياء لم يقلها والدك بعد.
[email protected]