بلال خبيز من بيروت : يمكن القول إن لبنان في السنتين الماضيتين حقق أرقاماً قياسية في قدرة القوى السياسية المختلفة على حشد الجماهير في تظاهرات صاخبة. بلد لا يتجاوز عدد سكانه الأربعة ملايين ويستطيع طرف سياسي فيه أن يحشد مئات الألوف في تظاهرة واحدة لهو امر يجب ان يسجل في خانة الإنجازات اللبنانية. والانجازات لا تقع دائماً في الجانب المضيء من الكرة، بل كثيراً ما تتحقق في جانبها المظلم. ليس مبعث فخر للبنانيين ان يحتشدوا على النحو الذي يحتشدون فيه. لكن البحث في معنى الاحتشاد ومعانيه واخطاره الكبيرة يطول ولا حاجة بنا في هذه اللحظة لتقصي معانيه. لكن يوم الاحد الواقع في10 كانون الاول/ ديسمبر من العام 2006 يجب ان يعلم حجره بعلامة فارقة. في هذا اليوم احتشد مئات الالوف من انصار حزب الله وحلفائه في المعارضة اللبنانية في ساحات بيروت. مئات الألوف لا تعني مئة او مئتين، كان حشداً لم يسبق له مثيل فعلاً. لكن هذا الحشد كله لم يمنع مئات الالوف من اللبنانيين الآخرين من الاحتشاد في ساحة معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس دعماً للحكومة ورئيسها. لبنان كله في هذا اليوم اصبح شارعاً.

ولم يعد من ملجأ للبنانيين سوى الشوارع يهتفون فيها بالدم والروح. على اي حال لا بد ان طرفي الأزمة استشعرا اليوم حدة المأزق الذي وجدا نفسيهما فيه، وبصرف النظر عن الطرف الذي يتحمل المسؤولية اكثر من غيره عن وصول البلاد إلى هذه الحافة الخطرة، فإن حسن الفطن يقتضي من الطرفين ان يعيدا النظر في حساباتهما جيداً. لن يكون هذا الحشد ممكناً مرة أخرى، لقد بلّغ رسالته ومضى، واي تأزم اضافي او تشنج في المواقف لا بد وان يدفع البلاد إلى اعتلاء درجة اخرى في سلم الانقسام الاهلي لن يكون فيها احد رابحاً. لكن الخسارة لن تقع على حزب الله او تيار المستقبل او القوات اللبنانية فهذه خسارات قد تكون مرغوبة حين يخسر الحزب ويربح البلد، لكن الخسارة الأكبر ستكون طعناً في استقلال البلد واستحقاق حريته ووحدته واستقراره.

الأرجح ان وصول قادة القوى السياسية إلى هذا الحد الذي وصلت إليه الامور جعل من إمكان البحث في سبل جدية لحل الأزمة ممكناً. فلم ينتصف ليل هذا الأحد الموتور حتى اعلن المبعوث السوداني موافقة حزب الله على البحث في المبادرة العربية المؤلفة من سبع نقاط، وعلى الفور عمد رئيس الحكومة اللبنانية إلى دعوة الدكتور مصطفى اسماعيل للعودة إلى بيروت للبحث مجدداً في تلك المبادرة. الخلاصة، ثمة كوة صغيرة قد يتنفس منها الاحتقان الشديد الذي يكاد يطيح بالبلد برمته.

لكن الناظر إلى ما جرى في الأسابيع الماضية في لبنان لا بد وان يسجل جملة نتائج بالغة الخطورة ينبغي تعيينها بدقة شديدة.
اول هذه النتائج ان الفرز المذهبي بين السنة والشيعة قد حصل سياسياً واجتماعياً، وان محاولات رأب الصدع، حتى لو توقفت التظاهرات اليوم وفي هذه الساعة بالضبط، تحتاج وقتاً طويلاً لتثمر. وإذا صح ادعاء القوى المتصارعة في البلد بأنها تريد تجنب الصدام الأهلي المسلح حقيقة، رغم ان سلوك هذه القيادات جميعاً لم يكن يوحي بذلك ابداً، فإن الانقسام الاجتماعي سيستمر مديداً وطويلاً وسيترك آثاره البليغة والخطرة على الاختلاط الديموغرافي في بيروت والمناطق، وعلى الوظائف في القطاعات الخاصة والعامة، فضلاً عن اثره الخطر على كل ما هو مشترك بين اللبنانيين.

ثاني هذه النتائج وقد تكون امر وادهى ان البلد بعد هذه الأعراس الشعبية الحاشدة، والتي كانت في أصلها واساسها اعراس نكاية اكثر مما هي اعراس تأييد، دفنت قدرة الشعب اللبناني على ان يكون سيد نفسه ومصدراً للسلطات جميعاً بحسب الدستور. فما نتج من هذه الأعراس لم يكن اقل من ايقان اللبنانيين جميعأً بسهولة انقياد الشعب إلى ما يريده وما لا يريده، وفي غالب الأحيان إلى ما لا يريده.
وثالث هذه النتائج قد يكون وهناً في مناعة البلد وقدرته على صون استقلاله بوحدته. فلم تعد النظرة موحدة إلى اعداء لبنان الخارجيين واصدقائه. بل بات لكل فئة من اللبنانيين عدوها المخصوص وصديقها المخصوص من الخارج وفي ذلك ما يوضح من غير لبس هشاشة البلد وضعف مناعته امام الخارج.

رابع النتائج ان اللبنانيين اثبتوا، هذا إذا نجوا من الجحيم الذي ينزلقون إليه، انهم في حاجة دائمة إلى وصي سواء في سلمهم او في حربهم. وان مستقبل لبنان في نهاية الامر يعتمد على حسن نية الوصي ومبلغ غيرته على لبنان واللبنانيين. بصرف النظر عن تأكيدات السيد حسن نصرالله بأنه لا يقبل الوصاية من عدو او من صديق.